كان زهير شاعراً مجيداً معدوداً من فحول الشعراء في الجاهلية، وكان النقاد يضعونه مع امرئ القيس والنابغة والأعشى في طبقة واحدة، هي الطبقة الأولى من شعراء الجاهلية. وكان الذي بلغ به إلى هذه المنزلة الكبيرة في الشعر، ووثق أسباب شاعريته عدة أسباب كثيرة منها: أولاً - هذه البيئة العربية البدوية الشاعرة.
ثانياً - تلك النهضة الأدبية في الشعر التي كانت تموج بها نجد والقرى العربية في عصر زهير.
ثالثاً - وراثته الشعر عن أسرته. فقد كان خاله بشامة بن الغدير شاعراً وكانت أسرة زهير من ذريته من المجيدين في الشعر قالوا: "لم يتصل الشعر في أهل بيت من العرب كما اتصل في بيت زهير" فأبوه وأبناؤه وأحفاده وأخته الخنساء كلهم من الشعراء المجيدين.
رابعاً - اشترك زهير في الملاحم الحربية في الجزيرة العربية. وفي حرب داحس والغبراء، والحروب تثير الشاعرية، وتهيج الخيال، وتحرك الشعور، وتبعث على الكلام.
خامساً - المنافسات الأدبية بين زهير والشعراء المعاصرين له، كانت سبباً أيضاً من أسباب نضوج شعره وشاعريته.
سادساً - قصد زهير بشعره إلى المدح كان يدفعه إلى الإجادة والتهذيب في شعره، مما رفع من مكانته، وقوى أسباب الرغبة في نفسه وشاعريته.
[أثر حياة زهير في شعره]
أولاً - نشأته في أسرة شاعرة جعلته يجود من شعره ويهذب من شاعريته.
ثانياً - اتصاله بهرم وتوالي أيادي هرم عليه جعله يجود في المدح.
ثالثاً - مشاهدته حرب داحس والغبراء الطاحنة، ومآسيها الدامية، دفعه إلى نظم الشعراء في التنفير من الحرب والدعوة إلى السلام.
رابعاً - تجارب زهير وخبرته بالحياة أنضجت شعر الحكمة عنده.
خامساً - التنافس الأدبي بينه وبين الشعراء، وتلمذته على أوس بن حجر، دفعاه إلى تجويد شعره والعناية بتهذيبه.
- ٣ -
[خصائص شعره]
أولاً - من حيث الألفاظ: كان زهير يختار ألفاظه اختيار، ويبالغ في اختيارها بذوقه وفطرته الأدبية، وقد يسرف في الغرابة حيناً، ولكن لا يخلو أغلب شعره من سهولة في اللفظ حيناً، وجزالة وقوة غالبتين عليه أحياناً.
ثانياً - من حيث الأسلوب: وأسلوب زهير من أساليب الشعراء المجددين المصنعين في شعرهم، وأنتم تعلمون مذهب زهير في الروية وتهذيب الشعر وتنقيحه للوصول به إلى منزلة الكمال الفني في النظم وإدراكاً للمنزلة السامية بين الشعراء. ومذهب الروية في شعر زهير واضح كل الوضوح في جميع قصائده، ويتجلى في عدة مظاهر في أسلوب زهير، من إمعان في تنقيح الأسلوب ونفي كل ما يعاب به، وإسقاط كل ما يؤخذ عليه، ومن إدخال الرونق والبهاء والجمال على كل بيت من أبيات قصيدته، ومن قصد للسهولة والوضوح والإمتاع واللذة الفنية التي تبعث على الإعجاب والروعة والتأثر.
ويغلب على شعر زهير ألوان كثيرة من الصنعة، يدخلها فيه من استعارة وتشبيه وكناية وطباق، ولكن هذه الألوان الفنية تجيء في شعره عفو القريحة، من غير قصد إليها وتعمل لها وتكلف فيها وغلو في طلبها، وإنما تنبعث من ذوق الشاعر وموهبته وروحه الصناع الموهوب وهذه الخصائص التي امتاز بها أسلوب زهير كانت هي السبب الأهم في تقديم كثير من النقاد له، ويجمع أغلبهم على وصف أسلوبه بالخلو من التعقيد والتكلف، وبالمساوقة للطبع وبالسهولة والوضوح في قوة وجزالة.. وعلى أي حال، فأسلوب زهير ذوب شاعريته وملكاته في الشعور، ومذهبه في الصنعة الذي شهر به، والذي أخذه عنه تلاميذه من أمثال الحطيئة، وكعب ابن شاعرنا زهير.
ثالثاً - من حيث المعاني: ومعاني زهير كما قلت تنبع من نفسه وتصدر عن حسه، وتتصل بمظاهر البيئة في حياته لا يمعن فيها في طلب المحال، ولكنه يعمد إلى الصدق فإذا بالغ في أداء المعنى اختار طريق المبالغة المقبولة فقال مثلاً:
فلو كان حمد يخلد الناس أخلدوا ... ولكن حمد الناس ليس بمخلد