للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

وإذا أراد أن يجود في المدح اختار ما هو أليق به وأقرب إلى ذوق الناس في عصره من وصف ممدوحه بالبطولة والشجاعة والعفة والنائل الكثير، والتهلل عند ورود العفاة ولكنه لا يزعم أبداً أن ممدوحه فعل المعجزات وصنع المستحيلات ونالت قدرته السموات، كما يزعم المحدثون من الشعراء. وتشيع في معاني زهير الحكمة الصادقة، والتجربة الصحيحة، والخبرة الواعية بالحياة وأحداثها ومشكلاتها. ومن ثم عد من شعراء الحكمة في الشعر الجاهلي.

رابعاً - من حيث الخيال: ومعاني زهير لا يسوقها سوق الحس والمشاهدة فحسب، ولكنه يتكئ فيها على خياله، ليبرزها في ألوان مجنحة من صنعة الخيال المتصرف في ملكات النفس والشعور وهذا الخيال عند زهير من صنعته أن يقرب البعيد، ويسهل الصعب من المعاني ويوضح الغامض، وأجنحة هذا الخيال في مبالغة مقبولة أو استعارة صادقة، أو كناية قريبة، أو تشبيه مستطرف في ثنايا شعره.

خامساً - من حيث الأغراض: أجاد زهير إجادة عالية في الحكمة والمدح والغزل، وقارب من الإجادة في الوصف والفخر والعتاب، وكان متوسطاً في الهجاء والرثاء والاعتذار.. وقد مضت نماذج لهذه الفنون من شعره، ولكن الذي نريد أن نتحدث عنه هو أسباب تجويده في المدح.. وهذه الأسباب من أهمها: أولاً: حرص زهير على تسجيل بعض مآثر سادات العرب الذين كان لهم مكان مرموق في الحياة الجاهلية، وأثر واضح في فض مشكلات الحرب بين قبائلها.

ثانياً: الوفاء الذي طبعت عليه نفس زهير وشدة تأثر بأيدي ممدوحيه عليه.

ثالثاً: اعتزازه بمفاخر القبيلة، ومجدها ومآثرها، مما كان يدفعه إلى مدح قومه.

رابعاً: اتصاله بهرم وتوالي أيادي هرم عليه.. كل هذه الأسباب جعلته جيد المدح. ولذلك قالوا: "كان أشعر الناس امرئ القيس إذا ركب، وزهير إذا رغب، والنابغة إذا رهب، والأعشى إذا طرب". ويقصدون من ذلك أن أجود شعر امرئ القيس كان في وصف الخيل والصيد، وأجود شعر زهير كان في المدح، وأجود شعر النابغة كان في الاعتذار، وأجود شعر الأعشى كان في وصف الخمر.

- ٤ - وكان زهير ينقح شعره مدة طويلة فتسمى كبار قصائده "الحوليات"، وعد من عبيد الشعر.. ولذلك كان زهير "أبعد الشعراء عن سخف، وأجمعهم لكثير من المعنى في قليل من اللفظ، وأكثرهم أمثالاً في شعره".. وكان لا يتتبع حوشي الكلام ولا يمدح الرجل إلا بما يكون فيه.

والظاهر أن طول تهذيبه لشعره إنما كان في طوال قصائده.. وهي أربع: أحداها مطلعها:

قف بالديار التي لم يعفها القدم ... بلى وغيرها الأرواح والديم

والثانية:

إن الخليط أجد البين فانفرقا ... وعلق القلب من أسماء ما علقا

والثالثة:

بأن الخليط ولم يأووا لمن تركوا ... وذودوك اشتياقا أية سلكوا

والرابعة:

لمن طلل برامة لا يريم ... عفا وخلا له حقب قديم

تظهر هذه الروية في شعره كل الظهور، فهو هادئ رزين في تفكيره، يتخير المعاني التي تناسب موضوعه، ويتخير لهذه المعاني خير الألفاظ، يرفق مواضع الرفق، ويشتد في مواضع الشدة.

كذلك عرف بالميل إلى الحكمة، جرب الدهر وحلب أشطره وخبر الناس وعرف نفوسهم فعمد إلى صياغة ذلك كله في شعره -وكان ملهما - فأتى بما لم يسبق إليه وقد أعجب المسلمون في الصدر الأول بحكمه، وفضله بعضهم من أجلها على سائر الشعراء، لما فيها من صدق القول، وحسن النظر، ولما فيها من نظرات تتفق ومبادئ الإسلام كقوله:

فلا تكتمن الله ما في نفوسكم ... ليخفى ومهما يكتم الله يعلم

يؤخر فوضع في كتاب فيدحر ... ليوم حساب أو يعجل فينقم

وخير شعره هو في مدح هرم بن سنان، كقوله:

قد جعل المبتعون الخير في هرم ... والسائلون إلى أبوابه طرقا

من يلق يوماً على علاقة هرما ... يلق السماحة منه والندى خلقا

ليث بعثر يصطاد الليوث إذا ... ما الليث كذب عن أقرانه صدقا

يطعنهم ما ارتموا حتى إذا طعنوا ... ضارب حتى إذا ما ضاربوا اعتنقا

لو نال حي من الدنيا بمكرمة ... أفق السماء لنالت كفه الأفقا

وقوله:

دع ذا وعد القول في هرم ... خير البداة وسيد الحضر

لو كنت من شيء سوى بشر ... كنت المنور ليلة البدر

ولأنت أوصل من سمعت به ... لشوابك الأرحام والصهر

<<  <   >  >>