فهم علقمة بقتله، ثم دخل إلى أمه، فقال لها: قد أمكنني الله من هذا الأعمى الخبيث. قالت: فما تراك فاعلاً به؟ قال سأقتله شر قتله. فقالت: يا بني قد كنت أرجوك لقومك عامة وإني اليوم لأرجوك لنفسك خاصة وإنما الرأي أن تكسوه وتحمله وتسيره إلى بلاده، فإنه لا يمحو عنك ما قاله إلا هو. ففعل ما أمرته به وأحسن صلته، فقال الأعشى:
علقم يا خير بني عامر ... للضيف والصاحب والزائر
والضاحك السن على همه ... والغافر العثرة للعائر
ومدح شريح بن السموءل والأسود بن الهنذر أخا النعمان لأمه وكان من تيم الرباب وهي قبائل من الياس بن مضر وكان أخوه ولاه عليهم وقد كان عنده أسرى من بني سعد بن ضبيعة، فأتاه الأعشى ومدحه بقصيدته:
ما بكاء الكبير بالأطلال ... وسؤالي وما ترد سؤالي
وسأله أن يطلقهم ففعل. وهذه القصيدة عند بعض العلماء معدودة من المعلقات وبعضهم يذكر أن معلقته هي قصيدته:
ودع هريرة إن الركب مرتحل ... وهل تطيق وداعاً أيها الرجل
وبعضهم يجعل معلقته هي مدحته للرسول:
ألم تغتمض عيناك ليلة أرمدا ... وبت كما بات السليم مسهدا
وهي قصيدة رائعة.
ومدح قيس بن معد يكرب الكندي، وسواه.
وقال الأعشى يمدح السموءل، ويستجير بابنه شريح بن السموءل من رجل كلبي كان الأعشى هجاه ثم أغار على قوم كان الأعشى نازلاً فيهم، فأسره وهو لا يعرفه، ثم سار حتى نزل بشريح بن السموءل فأحسن ضيافته، ومر بالأسرى فناداه الأعشى:
سريح، لا تسلمني بعد ما علقت ... حبالك اليوم بعد القد أظفاري
قد سرت ما بين بلقاء إلى عدن ... وطال في العجم تكراري وتسياري
فكان أكرمهم عهداً وأوثقهم ... عقداً أبوك بعرف غير إنكار
كالغيث مااستمطروه جاد وابله ... وفي الشدائد كالمستأسد الضاري
كن كالسموءل إذ طاف الهمام به ... في جحفل كسواد الليل جرار
إذ سامه خطتي خسف فقال له ... قل ما تشاء فإني سامع حار
فقال: غدر وثكل أنت بينهما ... فاختر. وما فيهما حظ لمختار
فشك غير طويل ثم قال له: ... اقتل أسيرك، إني مانع جاري
هذا له خلف إن كنت قاتله ... وإن قتلت كريما غير خوار
وسوف يعقبنيه إن ظفرت به ... رب كريم وقوم أهل اطهار
فاختار أدراعه كي لا يسب به ... ولم يكن وعده فيها بخنار
فجاء شريح الكلبي فقال: "هذا الأسير المنصور" فقال "هو لك" فأطلقه وقال له الأعشى "إن تمام إحسانك إلى أن تعطيني ناقة ناجية وتخليني الساعة" فأعطاه ناقة ناجية، فركبها ومضى من ساعته. وبلغ الكلبي أن الذي وهب لشريح هو الأعشى، فأرسل إلى شريح: "ابعث إلي الأسير الذي وهبت لك حتى أحبوه وأعطيه" فقال: "قد مضى" فأرسل الكلبي في أثره فلم يلحقه.
ولما وفد الأعشلا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، مدحه بقصيدته التي أولها:
ألم تغمض عيناك ليلة أرمدا ... وعاك ما عاد السليم المسهد
وما ذاك من عشق النساء وإنما ... تناسيت قبل اليوم خلة مهددا
وفيها يقول لناقته:
فأليت لا أرثي لها من كلالة ... ولا من حفا حتى تزور محمدا
نبي يرى مالا ترون وذكره ... أغار لعمري في البلاد وأنجدا
متى ما تناخى عند باب ابن هاشم ... تراحى وتلقى من فواضله يدا
فبلغ خبره قريشاً قط، فرصدوه على طريقه وقالوا: هذا صناجة العرب ما مدح أحداً قط إلا رفع قدره.
فلما ورد عليهم قالوا له: أين أردت يا أبا بصير؟ قال: أردت صاحبكم هذا لأسلم. قالوا: إنه ينهاك عن خلال ويحرمها عليك. قال: وما هي؟ فقال أبو سفيان بن حرب: الزنا. قال: لقد تركني الزنا وتركته، ثم ماذا؟ قالوا: القمار. قال لعلي إن لقيته أن أصيب منه عوضاً من القمار، ثم ماذا؟ قالوا: الربا. قال: ما دنت ولا أدنت، ثم ماذا؟ قالوا: الخمر. قال أوه! أرجع إلى صبابة قد بقيت في المهراس فأشربها.