٣ - ولد الأعشى بقرية من قرى اليمامة يقال لها منفوحة ونشأ راوية لخاله المسيب وتتلمذ عليه في الشعر وبدأ حياته شاباً فقيراً ماجناً يلعب القمار ويشرب الخمر، ثم سكن الحيرة وتردد على النصارى فيها يأتيهم ويشرب الخمر معهم، ثم جاب الجزيرة العربية من أقصاها إلى أقصاها يمدح ملوكها وأمراءها:
قد جبت مابين بانقيا إلى عدن ... وطال في العجم تردادي وتسياري
ويقول:
وطوفت للمال آفاقه ... عمان فحمص فأورشليم
أتيت النجاشي في داره ... وأرض النبيط وأرض العجم
وكان تطوافه سبباً في كثرة معارفه وسعة ثقافته.
اتصل بنصارى نجران وبأهل الحيرة وبشريح بن السموءل اليهودي صاحب تيماء بحصنه "الأبلق" وعده بعض الباحثين من النصارى، والظاهر أنه لم يؤمن بدين وأن مسحة العقيدة النصرانية التي قد تبدو على شعره إنما كان منشؤها كثرة تردده على الحيرة ومعاشرته لأهلها.
وكان يوافي سوق عكاظ وينشد فيه شعره فيحفظ عنه ويغني به ولذلك كانت العرب تضيفه وتهاديه ليمدحها ويطير ذكرها.
قيل إن عبد العزى المحلق الكلابي كان أبوه من أشراف العرب فمات، وقد أتلف ماله وبقي المحلق وثلاث أخوات له لم يترك لهم إلا ناقة واحدة وحلتي برود جيدة فأقبل الأعشى في بعض أسفاره يريد منزله باليمامة، فنزل الماء الذي به المحلق فقراه أهل الماء فأحسنوا قراه فأقبلت عمة المحلق فقالت يا ابن أخي هذا الأعشى نزل بمائنا وقد قراه أهل الماء والعرب تزعم أنه لم يمدح قوماً إلا رفعهم ولم يهج قوماً إلا وضعهم، فاحتل في زق خمر من عند بعض التجار فأرسل إليه بهذه الناقة والزق وبردى أبيك، فوالله لئن اعتلج الكبد والسنام والخمر في جوفه ونظر إلى عطفيه في البرد ليقولن فيك شعراً يرفعك به. قال: ما أملك غير هذه الناقة وأنا أتوقع رسلها، فأخذت عمته تحضه، ثم دخل عليها وقال قد ارتحل الرجل. قالت الآن والله أحسن ما كان القرى تتبعه ذلك مع غلام أبيك فحيثما أدركه أخبره عنك أنك كنت غائباً عند نزوله الماء وأنك لما وردت فعلمت أنه كان به كرهت أن يفوتك قراه، فإن هذا أحسن لموقعه عنده. فمازالت به حتى فعل ذلك فخرج مولاه يتبع الأعشى، فكلما مر بماء قيل له: قد ارتحل أمس عنه، حتى صار إلى منزله بمنفوحة، فوجد عنده جماعة من الفتيان قد غداهم بغير لحم وسقاهم، فقرع الباب فقال لهم: انظروا من هذا. فدخلوا عليه وقالوا: رسول المحلق الكلابي أتاك بكيت وكيت، ومازالوا به حتى أذن له، فدخل وأدى الرسالة فقال له: أقرئه السلام وقل: وصلتك رحم سيأتيك ثناؤها. وقام الفتيان فنحروا الجزور وأخذوا يشوون ويأكلون ويشربون من الخمر، فلما شبع الأعشى قال:
أرقت وما هذا السهاد المؤرق ... وما بي من سقم وما بي تعشق
فسارت القصيدة وشاعت في العرب، فما أتى على المحلق سنة حتى زوج إخوته الثلاث كل واحدة على مائة ناقة، فأيسر وشرف.
ويروى أن امرأة كسدت عليها بناتها فأتت الأعشى وسألته أن يشبب بواحدة فواحدة منهن وبعثت له هدايا فما زال يشيب بواحدة منهن واحدة حتى زوجن جميعا.
٤ - وفد الأعشى على كسرى، وقصد النعمان بن المنذر وأنشده:
إليك ... أبيت اللعن
كان كلالها
تروح مع الليل الطويل وتغتدي
ثم أنشده قصيدته:
أأزمعت من آل ليلى ابتكارا ... وشطت على ذي هوان تزارا
ويقال: إن الأعشى أول من سأل بشعره وانتجع به أقاصي البلاد ورحل به إلى الملوك والأمراء وكان يغنى بشعره، فكانت العرب تسميه صناجة العرب، وكان بين علقمة بن علاثة وعامر بن الطفيل مفاخرة، وكان الأعشى يمدح عامر بن الطفيل ويهجو علقمة، ومما قال فيه:
علقم ما أنت إلى عامر ... الناقض الأوتار والواتر
فلما بلغ ذلك علقمة نذر دمه وجعل له على كل طريق رصدا، فخرج الأعشى يوماً يريد وجهاً فأخطأ به الدليل فألقاه في ديار عامر، فأخذه رهط علقمة فأتوه به فقال:
علقم قد صيرتني الأمور ... إليك وما أنت لي منقص
فهب لي نفسي فدتك النفوس ... ولازلت تنمو ولا تنقص