فانطلق الرجل بوصيته إلى نافع ابنه، فأخذ التراب فوضعه على رأسه؛ ثم استقراهم واحداً واحداً، فكلهم فعل ذلك؛ حتى أتى امرأ القيس فوجده مع نديم له يشرب الخمر ويلاعبه بالنرد؛ فقال له: قتل حجر، فلم يلتفت إلى قوله، وأمسك نديمه. فقال له امرؤ القيس، اضرب فضرب، حتى إذا فزع قال: ما كنت لأسد عليك دستك.
ثم سأل الرسول عن أمر أبيه كله، فأخبره؛ فقال الخمر علي والنساء حرام، حتى أقل من بني أسد مائة وأجز نواصي مائة.
وكان امرؤ القيس قد طرده أبو حجر، وآلى ألا يقيم معه أنفة من قوله الشعر - وكانت الملوك تأنف من ذلك - فكان يسير في أحياء العرب ومعه أخلاط من شذاذ العرب: من طيئ وكلب وبكر بن وائل، فإذا صادف غديراً أو روضة أو موضع صيد أقام فذبح لمن معه في كل يوم؛ وخرج للصيد فتصيد فأكل وأكلوا معه. وشرب الخمر وسقاهم. وغنته قيانه.
ولا يزال كذلك حتى ينفذ ماء ذلك الغدير. ثم ينتقل عنه إلى غيره. فأتاه خبر أبيه ومقتله وهو بدمون من أرض اليمن. فقال:
تطاول الليل على دمون ... دمون إنا معشر يمانون
وإننا لأهلنا محبون
ثم قال: ضيعني صغيراً، وحملني دمه كبيراً. لا صحو اليوم؛ ولا سكر غداً، "اليوم خمر، وغداً أمر". ثم قال:
خليلي لا في اليوم مصحى لشارب ... ولا في غد إذ ذاك ما كان يشرب.
وقدم على امرئ القيس بن حجر الكندي بعد مقتل أبيه رجالات من بني أسد، فيهم المهاجر بن خداش؛ وعبيد بن الأبرص، وقبيصة بن نعيم - وكان رجلاً مقيماً في بني أسد ذا بصيرة بمواقع الأمور ورداً وإصداراً، يعرف ذلك له من كان محيطاً بأكناف بلده من العرب.
فلما علم امرؤ القيس بمكانهم أمر بإنزالهم، وتقدم في إكرامهم والإفضال عليهم. واحتجب عنهم ثلاثا.
فقالوا لمن ببابه من رجال كندة: ما بال الرجل لا يخرج إلينا؟ فقيل لهم: هو في شغل بإخراج ما في خزائن حجر من العدة والسلاح! فقالوا: اللهم غفرا! إنما قدمنا في أمر نتناسى به ذكر ما سلف. ونستدرك به ما فرط. فليبلغ ذلك عنا.
فخرج إليهم بعد ثلاث في قباء وخف غمامة سوداء - وكانت العرب لا تعتم بالسواد إلا في التراث - فلما رأوه نهضوا له. وبدر إليه قبيصة فقال: إنك في المحل والقدر والمعرفة بتصرف الدهر. وما تحدثه أيامه وتتنقل به أحواله، بحيث لا تحتاج إلى تبصير واعظ. ولا تذكرة مجرب. ولك من سؤدد منصبك، وشرف أعراقك، وكرم أصلك في العرب محتمل يحتمل ما حمل عليه من إقالة العثرة، والرجوع عن الهفوة ولا تتجاوز الهمم إلى غاية إلا رجعت إليك فوجدت عندك من فضيلة الرأي وبصيرة الفهم وكرم الصفح ما يطول رغباتها ويستغرق طلباتها.
وقد كان الذي كان من الخطب الجليل، الذي عمت رزيته نزاراً واليمن. ولم تخصص به كندة دوننا للشرف البارع الذي كان لحجر، ولولا كان يفدى هالك بالأنفس الباقية بعده لما بخلت كرائمنا على مثله ببذل ذلك، ولفديناه منه. ولكن مضى به سبيل لا يرجع أولاه على أخراه ولا يلحق أقصاه أدناه.
فأحمد الحالات في ذلك: أن تعرف الواجب عليك في إحدى خلال ثلاث إما أن اخترت من بني أسد أشرفها بيتاً وأعلاها في بناء المكرمات صوتاً فقدناه إليك بنسعة تذهب مع شفرات حسامك بباقي قصرته. فيقال: رجل امتحن بهلك عزيز عليه. فلم تستل سخيمته إلا بتمكينه من الانتقام أو فداء بما يروح على بني أسد من نعمها فهي ألوف تجاوز الحسبة وكان ذلك فداء ترجع به القضب إلى أجفانها لم يردده تسليط الإحن على البراء وإما أن توادعنا حتى تضع الحوامل فتسدل الأزر وتعقد الخمر فوق الرايات.
فبكى امرؤ القيس ساعة ثم رفع طرفه إليهم فقال قد علمت العرب أن لا كفء لحجر في دم وأني لن أعتاض به ناقة أو جملاً فأكتسب بذلك سبة الأبد وفت العضد وأما النظرة فقد أوجبتها الأجنة في بطون أمهاتها وإني لن أكون لعطبها سبيا وستعرفون طلائع كندة من بعد ذلك تحمل في القلوب حنقا وفوق الأسنة علقا.
إذا جالت الخيل في مأزق ... تصافح فيه المنايا النفوسا
أتقيمون أم تنصرفون؟ قالوا بل ننصرف بأسوأ الاختيار لحرب وبلية، ومكروه وأذية. ثم نهضوا عنه وقبيصة يقول متمثلا:
لعلك أن تستوخم الموت إن غدت ... كتائبنا في مأزق الموت تمطر