للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

فلا من عليك بها، فإني ... رأيت المن يزرى بالجميل

فآب البرجمي وما عليه ... من أعباء الحمالة من فنيل

يجر الذيل ينفض مذرويه ... خفيف الظهر من حمل ثقيل!

- ٧ - وقالت ماوية امرأة حاتم: أصابتنا سنة اقشعرت لها الأرض، واغبر أفق السماء وراحت الإبل حدبا حدابير، وضنت المراضع على أولادها، فما تبض بقطرة، وحلقت ألسنة المال، وأبقنا بالهلاك. فوالله أنا لفي ليلة صنبر، بعيدة مابين الطرفين، إذ تضاغى صبيتنا جوعاً: عبد الله وعدي وسفانة، فقام حاتم إلى الصبيين، وقمت أنا إلى الصبية، وأقبل يعللني بالحديث، فعرفت ما يريد، فتناومت.

فلما تهورت النجوم، إذا شيء قد رفع كسر البيت ثم عاد. فقال حاتم: من هذا؟ قالت: جارتك فلانة، أتيتك من عند صبية يتعاوون عواء الذئاب، فما وجدت معلولا إلا عليك يا أبا عدي. فقال: أعجليهم فقد أشبعك الله!.

فأقبلت المرأة تحمل اثنين ويمشي بجانبها أربعة، كأنها نعامة حولها رثالها، فقام حاتم إلى فرسه فوجأ لبته بمدية فخر. ثم كشطه ودفع المدية إلى المرأة، فقال لها: شأنك! فاجتمعنا على اللحم نشوي ونأكل. ثم جعل يمشي الحي يأتيهم بيتاً بيتاً فيقول: هبوا أيها القوم، عليكم بالنار، فاجتمعوا والتفع وجلس في ناحية ينظر إلينا. فوالله إن ذاق منه مزعة وانه لأحوج إليه منا، فأصبحنا وما على ظهر الأرض من الفرس إلا عظم وحافر، فأنشأ حاتم يقول:

مهلا نوار أقلي اللوم والعذلا ... ولا تقولي لشيء فات ما فعلا

ولا تقولي لمال كنت مهلكه ... مهلا وإن كنت أعطي السهل والجبلا

يرى البخيل المال واحدة ... إن الجواد يرى في ماله سبلا

- ٨ - ولما تزوج حاتم ماوية، وكانت من أحسن النساء، لبثت عنده زمناً ثم إن ابن عم له يقال له مالك قال لماوية: ما تصنعين بحاتم؟ فوالله لئن وجد شيئاً ليتلفنه، ولئن لم يجد ليتكلفن، ولئن مات ليتركن ولده عيالا على قومه، طلقي حاتماً وأنا أتزوج بك، فأنا خير لك منه وأكثر مالاً، وأنا أمسك عليك وعلى ولدك. فقالت ماوية: صدقت إنه لكذلك فلم يزل بها حتى طلقت حاتماً.

وكانت النساء أو بعضهن يطلقن الرجال في الجاهلية. وكان طلاقهن أنهن يحولن أبواب بيوتهن إن كان الباب إلى المشرق جعلنه إلى المغرب، وإن كان الباب قبل اليمن جعلنه قبل الشام، فإذا رأى ذلك الرجل علم أنها قد طلقته فلم يأتها.

فأتى حاتم فوجدها قد حولت باب الخباء فقال لابنه: يا عدي ما ترى أمك؟ ما عدا عليها! قال: لا أدري غير أنها غيرت باب الخباء، وكأنه لم يلحن لما قال. فدعاه فهبط به بطن واد.

وجاء قوم فنزلوا على باب الخباء، كما كانوا ينزلون فتوافى خمسون رجلاً فضاقت بهم ماوية ذرعاً، فقالت لجاريتها: اذهبي إلى مالك فقولي له إن أضيافاً لحاتم قد نزلوا بنا وهم خمسون رجلاً فأرسل إلينا بنات نقرهم ولبن نعبقهم.

وقالت لجاريتها: انظري إلى جبينه وفمه فإن شافهك بالمعروف فاقبلي منه وإن ضرب بلحييه على زوره فارجعي ودعيه.

فلما أتت مالكاً وجدته متوسداً وطبا من لبن، فأيقظته وأبلغته الرسالة وقالت، إنما هي الليلة حتى يعلم الناس مكانه، فأدخل يده في رأسه وضرب بلحييه على زوره، فقال لها: أقرئي عليها السلام، وقولي لها هذا الذي أمرتك أن تطلقي حاتماً من أجله. فما عندي من كبيرة، قد تركت العمل، وما كنت لأنحر صفية غزيرة بشحم كلاها، وما عندي لبن يكفي أضياف حاتم.

فرجعت الجارية فأخبرتها بما رأت منه، وأعلمتها بمقالته، فقالت لها: ويلك ائتي حاتماً فقولي له: إن أضيافك قد نزلوا الليلة بنا، ولم يعلموا بمكانك، فأرسل إلينا بنات ننحرها ونقرهم، وبلبن نسقهم، فإنما هي الليلة حتى يعرفوا مكانك.

فأتت الجارية حاتماً فصرخت به، فقال حاتم لبيك، قريباً دعوت، فقالت: إن ماوية تقرأ عليك السلام، وتقول لك: إن أضيافك قد نزلوا بنا الليلة، فأرسل إليهم بناب ننحرها لهم ولبن نسقهم. فقال: نعم وأبي! ثم قام إلى الإبل فأطلق اثنتين من عقاليهما، ثم صاح بهما حتى أتى الخباء، فضرب عراقيبهما، فطفقت ماوية تصيح وتقول: هذا الذي طلقتك فيه، تترك ولدك وليس لهم شيء.

- ٩ -

<<  <   >  >>