وخفت عيون الباكيات وأقبلوا ... إلى ما لهم قد بنت عنه بماليا
حراصاً على ما كنت أجمع قبلهم ... هنيئاً لهم جمعي وما كنت واليا
وقد وفد علقمة على الحارث الوهاب سيد بني غسان ملك الشام ومدحه بقصيدته
طحا بك قلب في الحسان طروب ... يعيد الشباب عصر حان مشيب
وكان أخو علقمة شاس أسيراً عند الحارث مع عدة رجال من بني تميم فطلب علقمة إطلاقهم وكان سبب أسرهم على ما يروى أن الحارث الغساني خطب إلى المنذر ابنته هنداً فوعده بها وكانت هند لا تريد الرجال فصنعت بجلدها شبه البرص فندم المنذر على تزويجها وأمسكها عن ملك غسان فنشبت الحرب بسبب ذلك وأسر خلق كثير من أصحاب المنذر منهم شاس بن عبدة أخو علقمة فلما مدح علقمة الحارث بقصيدته المذكورة وطلب منه فك أسر أخيه لبى الملك دعاءه وأطلق له أخاه وكل الأسرى من قبيلته. ومن شعر علقمة الجيد قصيدة مطلعها:
هل ما علمت وما استودعت مكتوب ... أم حبلها إذ نأتك اليوم مصروم
أم هل كبير بكى لم يقض عبرته ... أثر الأحبة يوم البين مشكوم
والنقاد يعجبون بشعر علقمة إعجاباً شديداً.
اجتمع الزبرقان بن بدر وعمرو بن الأهتم والمخبل السعدي وعلقمة الفحل قبل أن يسلموا وبعد مبعث النبي صلى الله عليه وسلم، فنحروا جزوراً واشتروا خمراً ببعير، وجلسوا يشوون ويأكلون، فقال أحدهم وقد لعبت برأسه سورة الحميا: لو أن قوماً طاروا من جودة أشعارهم لطرنا. وقال كل منهم لصاحبه أنا أشعر منك، ثم تحاكموا إلى أول من يطلع عليهم. ومن غرائب المصادفات أن يكون أول طالع حكم العرب وقاضيها الحصيف الرأي ربيعة بن حذار الأسدي. ولما طلع رحبوا به وقالوا له: أخبرنا أينا أشعر؟ قال أخاف أن تغضبوا. فأمنوه من ذلك. فقال: أما أنت يا زبرقان فإن شعرك كلحم لا أنضج فيؤكل؛ ولا ترك نيئاً فينتفع به. وأما أنت يا عمرو فإن شعرك كبرد حبرة يتلألأ فيه البصر فكلما أعدته نقص. وأما أنت يا مخبل فشعرك شهب من نار الله يلقيها على من يشاء. وأما أنت يا علقمة فإن شعرك كمزادة قد أحكم خرزها فليس يقطر منها شيء. وقال ابن الأعرابي (١٥٠-٢٤٠ هـ) لم يصف أحد قط الخيل إلا احتاج إلى أبي دؤاد، ولا وصف الخمر إلا احتاج إلى أوس بن حجر ولا وصف أحد النعامة إلا احتاج إلى علقمة بن عبدة ولا اعتذر أحد في شعره إلا احتاج إلى النابغة الذبياني.
وقال أبو عبد الله بن سلام الجمحي المتوفي عام ٢٣١ هـ في كتابه طبقات الشعراء لابن عبدة ثلاث روائع جياد لا يفوقهن شعر: الأولى "طحا بك قلب في الحسان طروب" والثانية "ذهبت من الهجران غير مذهب"، والثالثة "هل ما علمت وما استودعت مكتوم". وقد شارك ابن سلام في رأيه هذا ابن رشيق القيرواني في كتابه "العمدة" وقد ذكره ابن سلام في الطبقة الرابعة من شعراء الجاهلية.
وقال ابن سعيد المغربي (٦١٠-٦٩٣ هـ) في كتابه "عنوان المرقصات والمطربات" "معاني الغوص في شعر علقمة معدومة، وأقرب ما وقع له قوله:
أوردتها وصدور العبس مسنفة ... والصبح بالكوكب الدري منحور
يشير إلى أن كوكب الصبح مثل سنان الحربة طعن به فسال منه دم الشفق وإذا تبين هذا المعنى كان من المرقصات.. وقوله:
يحملن أترجة نضح العبير بها ... كأن تطيابها في الأنف مشموم
يشير إلى أن ما نال هذه المرأة من مضض السير واصفرار لونها كالأترجة وأنها كلما تحركت تزيد طيباً! ومنه أخذ ابن الرمى وغيره تشبيه المرأة بالروضة لطيب ثغرها".
وقال أبو عمرو بن العلاء (٦٨-١٥٤ هـ) أعلم الناس بالنساء علقمة بن عبدة حيث يقول:
فإن تسألوني بالنساء فإنني ... بصير بأدواء النساء طبيب
إذا شاب رأس المرء أو قل ماله ... فليس له من ودهن نصيب
يردن ثراء المال حيث علمنه ... وشرخ الشباب عندهن عجيب
وكانت العرب - كما يقول حماد الراوية - تعرض أشعارها على قريش، فما قبلوا منها كان مقبولاً، وما ردوا منها كان مردوداً، فقدم علقمة بن عبدة فأنشدهم قصيدته التي أولها:
هل ما علمت وما استودعت مكتوم؟ ... أم حبلها إذ نأتك اليوم مصروم
فقالوا: هذا سمط الدهر.. ثم عاد إليهم في العام المقبل فأنشدهم درته التي مطلعها "طحابك" فقالوا: هاتان سمطا الدهر.