أ - عنترة بن عمرو بن شداد العبسي ٦١٥ م أحد فرسان العرب وأبطالها وشعرائها، كان عبداً أسود. وكان لا يقول من الشعر إلا البيتين أو الثلاثة، فخاصمه رجل وعيره بسواده وسواد أمه وسوى ذلك وأنه لا يقول الشعر. فقال عنترة: والله إن الناس ليترافدون الطعام فما حضرت أنت ولا أبوك ولا جدك مرفد الناس قط، وإن الناس ليدعون في الغارات فيعرفون بتسويمهم فما رأيتك في خيل مغيرة في أوائل الناس قط، وإن اللبس ليكون بيننا فما حضرت أنت ولا أبوك ولا جدك خطة فصل. وإني لأحضر البأس وأوفى المغنم، وأعف عن المسألة، وأجود بما ملكت يدي، وأفصل الخطة الصماء، وأما الشعر فستعلم. فغاب حيناً وعاد إليه فأنشده معلقته:
هل غادر الشعر من متردم ... أم هل عرفت الدار بعد توهم
وهي أجود شعره. وكان العرب تسميها الذهبية.
وشجاعة عنترة وبسالته دفعت أباه إلى أن يستلحقه بنسبه، وإلى أن يزوجه عمه ابنته عبلة، وكان فارس داحس والغبراء، كما كان فارس عبس، وأحد أغربة العرب المشهورين.
ب - تحليل ونقد للمعلقة: ١ - هي إحدى المعلقات السبع، ومن روائع الشعر العربي القديم مطلعها:
هل غادر الشعراء من متردم ... أم هل عرفت الدار بعد توهم
٢ - وتمتاز بالسهولة واللين الباديين فيها، والذين قلما يوجدان في الشعر النجدي القديم، والذين لا يخلوان من فخامة وجزالة واضحة جلية، سهلة اللفظ، قريبة المعنى، ليس بينها وبين النفس حجاب من هذه الجزالة التي تكاد تبلغ الغرابة، وإنما تسير في سهولة ويسر، وترتفع عن الإسفاف والابتداء دون تورط في الغلظة والإغراب، وعنترة فيها رقيق في غزله والإشادة ببطولته، بل هو رقيق في حديثه عن أعدائه. أليس هو الذي يقول:
فشككت بالرمح الأصم ثيابه ... ليس الكريم على القنا بمحرم
بل هو رقيق على فرسه، يألم لألمه، ويشقى لشقائه، ويرى بكاءه، ويسمع توجعه حين تعبث به رماح الأعداء:
فازور من وقع القنا بلبانه ... وشكا إلى بعبرة وتحمحم
لو كان يدري ما المحاورة اشتكى ... ولكان لو علم الكلام مكلمي
وعنترة لا تنتهي به الرقة إلى الضعف، كما لا تنتهي به الشدة إلى العنف، وكما لا ينتهي به السكر إلى ما يفسد الأخلاق والمروءة، أو الصحو إلى التقصير والعيب والبخل، وهو مقدم إذا كانت الحرب عفيف إذا قسمت الغنائم، يحاول أن يصف من أخلاقه ما يشرف به الرجل العربي الكريم، مما يستغنى عن الإبانة عنه، فيقول هذه الكلمة الرائعة: "وكما علمت شمائلي وتكرمي".
المعلقة تصوير واضح لنفسية الشاعر ومشاعره وحياته وعواطفه وبطولته وقوته وبأسه ونضاله للأعداء، ولا عجب فهي تنبع من نفسه وحياته وتصورهما تمام التصوير.
ولو لم نعرف عنترة أو نسمع بأخباره وحياته، لعرفناه من معلقته بطلا مقداما، وشجاعا فارسا، وعربياً كريم الخلق، رقيق العاطفة، حار الشعور، يضع روحه في كفه، ويبذلها مضحيا في سبيل كرامته وشرفه وبطولته.
٣ - وقد سار فيها على نهج غيره من الشعراء فذكر الديار كما ذكروها، ووصف الناقة كما وصفوها، وافتخر بالكرم والنجدة والبطولة.
وفيها معان قلما انتهى إلى مثلها غير عنترة من الشعراء ولم يخطئ ابن سلام حين قال إن هذه القصيدة نادرة فهي نادرة حقاً، وكأنها طائفة من الأنغام الموسيقية الكثيرة المختلفة فيما بينها أشد الاختلاف، وفيها نغمة واحدة متصلة منذ بدء القصيدة إلى نهايتها تظهر واضحة حيناً، وتحسها النفس وإن لم تسمعها الأذن حيناً آخر. وهذه النغمة التي تكون وحدة هذه القصيدة كما كونت الوحدة في معلقة لبيد هي حديث الشاعر إلى صاحبته واستحضار صورتها في الفسة منذ بدء القصيدة. ولكن بين هذه النغمة في قصيدة عنترة وقصيدة لبيد فرقاً واضحاً جداً، فهي في قصيدة عنترة حلوة رقيقة تمازج النفس فتمتزج بها لأن عنترة فيما يظهر كان حلو النفس، رقيق القلب، قوي العاطفة، جاءه ذلك من أنه عز بعد ذلة، وتحرر بعد رق، فهو قد شقي في صباح وطفولته، واحتمل الأذى في شبابه والذل الذي يمتزج بالنفس فيصفي عواطفها ويلطف حدتها. على حين نجد هذه النغمة عند لبيد غليظة خشنة، لبيد يتحدث عن صاحبته في أول القصيدة ويذكرها أثناءها ولكنه ليس متهالكاً عليها ولا متحرجاً من الصد عنها، فهو يبادل القطيعة بالقطيعة والهجر بالهجر. أما عنترة فيقول: