قلنا: هذه مصادر في أصل وضعها، ولكنها قد أجريت مجرى الأسماء، حيث
صارت عبارة عن صفات لازمة وعن حاسة باطنة كالبصرة، ألا ترى أنك إذا قلت: عقلت البعير عقلاً، لم يجز في هذا المصدر الجمع، فإذا أردت به المعنى الذي استعير له - وهو عقل الإنسان - جاز جمعه، إذ صار للإنسان كأنه حاسة باطنة كالبصر، ألا ترى أن البصر حيثما ورد في القرآن مع السمع فهو مجموع، والسمع غير مجموع في أجود الكلام، لبقاء السمع على أصله من بناء المصادر الثلاثية، ولكون البصر على وزن " فعل " كالأسماء، ولأنه يراد به الحاسة.
وقد يجوز في السمع - على ضعف - أن تجمعه إذا أردت به الحاسة دون
المصدر كما تجمع الفهم على أفهام، ولكن لا يكون ذلك إلا بشرط، وهو أن يكون الأفهام والأسماع ونحوهما مضافة إلى جمع، نحو: أفهام القوم، وأسماع الزيدين.
ولو كان هذا الجمع إنما هو لاختلاف أنواع المصدر، لما جاز أن تقول:
عرفت أفهام القوم في هذه المسألة، وعرفت علومهم بزيد، لأن الصفة لا تختلف عند اتحاد متعلقها، بل هي متماثلة وإن اختلفت محالها، فعلم زيد وعلم عمرو، إذا تعلقا بشيء واحد فهما مثلان، وعلم زيد بشيء واحد وعلم بشيء آخر مختلفان، لاختلاف المعلومين، ولا نطول بإقامة البرهان على هذا الأصل، فإنه ثابت في كتب الأصول وإنما أردنا أن نبين أن الأفهام والعقول لم تجمع لاختلاف أنواعها، لأنها قد تجمع حيث لا تختلف وهي عند اتفاق أفهام على مفهوم واحد.
وتجيء مفردة عند اختلافها نحو: فهم زيد بالحساب وفهمه بالنحو وفهمه بغير ذلك.
لا يقال: عرفت أفهام زيد بالصناعات، ولكن تقول:" عرفت فهم زيد " بالإفراد مع اختلاف متعلقه، واختلاف متعلقه يوجب اختلافه.
وإذا ثبت هذا فلم يجمع " الفهم " على أفهام إلا من حيث كانت بمنزلة حاسة
باطنة للإنسان، فإذا أضيف إلى أناسي كثيرة جمع، وإذا أضيف إلى إنسان واحد لم يجمع، لأنه كالحاسة الواحدة، وإن كان في أصله مصدراً، فرب مصدر أجري مجرى الأسماء كقولهم: ضيف وضيوف، وعدل وعدول، وصيد وصيود.