تمض فِيهِ سنة من رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَا رأى لأحد فِي سنة سنّهَا رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. عَن الْأَعْمَش قَالَ: كَانَ إِبْرَاهِيم يَقُول: يقوم عَن يسَاره، فَحَدَّثته عَن سميع الزيات عَن ابْن عَبَّاس أَن النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَقَامَهُ عَن يَمِينه فَأخذ بِهِ عَن الشّعبِيّ، جَاءَهُ رجل يسْأَله عَن شَيْء فَقَالَ: كَانَ ابْن مَسْعُود يَقُول فِيهِ كَذَا وَكَذَا قَالَ: أَخْبرنِي أَنْت بِرَأْيِك، فَقَالَ أَلا تعْجبُونَ من هَذَا أخْبرته عَن ابْن مَسْعُود، ويسألني عَن رَأْيِي، وديني عِنْدِي أثر من ذَلِك، وَالله لِأَن أتغنى بأغنية أحب إِلَيّ من أَن أخْبرك برأيي، أخرج هَذِه الْآثَار كلهَا الدَّارمِيّ.
وَأخرج التِّرْمِذِيّ عَن أبي السَّائِب قَالَ: كُنَّا عِنْد وَكِيع، فَقَالَ لرجل مِمَّن ينظر فِي الرَّأْي: أشعر رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَيَقُول أَبُو حنيفَة: هُوَ مثله؟ قَالَ الرجل، فَإِنَّهُ قد رُوِيَ عَن إِبْرَاهِيم النَّخعِيّ أَنه قَالَ: الْإِشْعَار مثله قَالَ: رَأَيْت وكيعا غضب غَضبا شَدِيدا وَقَالَ: أَقُول لَك: قَالَ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَتقول: قَالَ إِبْرَاهِيم، مَا أحقك بِأَن تحبس، ثمَّ لَا تخرج حَتَّى تنْزع عَن قَوْلك هَذَا، وَعَن عبد الله بن عَبَّاس وَعَطَاء وَمُجاهد وَمَالك بن أنس رَضِي الله عَنْهُم أَنهم كَانُوا يَقُولُونَ: مَا من أحد إِلَّا وَهُوَ مَأْخُوذ من كَلَامه ومردود عَلَيْهِ إِلَّا رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَبِالْجُمْلَةِ فَلَمَّا مهدوا الْفِقْه على هَذِه الْقَوَاعِد، فَلم تكن مَسْأَلَة من الْمسَائِل الَّتِي تكلم فِيهَا من قبلهم وَالَّتِي وَقعت فِي زمانهم إِلَّا وجدوا فِيهَا حَدِيثا مَرْفُوعا مُتَّصِلا أَو مُرْسلا أَو مَوْقُوفا صَحِيحا أَو حسنا أَو صَالحا للاعتبار، أَو وجدوا أثرا من آثَار الشَّيْخَيْنِ أَو سَائِر الْخُلَفَاء وقضاة الْأَمْصَار وفقهاء الْبلدَانِ، أَو استنباطا من عُمُوم أَو إِمَاء أَو اقْتِضَاء، فيسر الله لَهُم الْعَمَل بِالسنةِ على هَذَا الْوَجْه، وَكَانَ أعظمهم شَأْنًا وأوسعهم رِوَايَة وأعرفهم للْحَدِيث مرتبَة واعمقهم فقها أَحْمد بن مُحَمَّد حَنْبَل، ثمَّ إِسْحَاق بن رهوية، وَكَانَ تَرْتِيب الْفِقْه على هَذَا الْوَجْه يتَوَقَّف على جمع شَيْء كثير من الْأَحَادِيث والْآثَار حَتَّى سُئِلَ أَحْمد يَكْفِي الرجل مائَة ألف حَدِيث حَتَّى يفنى؟ قَالَ: لَا حَتَّى قيل خَمْسمِائَة ألف حَدِيث قَالَ: أَرْجُو كَذَا فِي غَايَة الْمُنْتَهى وَمرَاده الافتاء على هَذَا الأَصْل.
ثمَّ أنشأ الله تَعَالَى قرنا آخر، فراوا أَصْحَابهم قد كفوا مُؤنَة جمع الْأَحَادِيث وتمهيد الْفِقْه على أصلهم، فتفرغوا للفنون أُخْرَى كتمييز الحَدِيث الصَّحِيح وَالْمجْمَع عَلَيْهِ بَين كبراء أهل الحَدِيث كزيد بن هرون وَيحيى بن سعيد الْقطَّان وَأحمد وَإِسْحَق وأضرابهم،