للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وكجمع أَحَادِيث الْفِقْه الَّتِي بنى عَلَيْهَا فُقَهَاء الْأَمْصَار وعلماء الْبلدَانِ مذاهبهم، وكالحكم على كل حَدِيث بِمَا يسْتَحقّهُ، وكالشاذة والفاذة من الْأَحَادِيث الَّتِي لم يروها، أَو طرقها الَّتِي لم يخرجُوا من جِهَتهَا الْأَوَائِل مِمَّا فِيهِ اتِّصَال أَو علوا سَنَد أَو رِوَايَة فَقِيه عَن فَقِيه أَو حَافظ عَن حَافظ، وَنَحْو ذَلِك من المطالب العلمية، وَهَؤُلَاء هم البُخَارِيّ وَمُسلم وَأَبُو دَاوُد وَعبد بن حميد والدارمي وَابْن مَاجَه وَأَبُو يعلى وَالتِّرْمِذِيّ وَالنَّسَائِيّ وَالدَّارَقُطْنِيّ وَالْحَاكِم وَالْبَيْهَقِيّ والخطيب والديلمي وَابْن عبد الْبر وأمثالهم، وَكَانَ أوسعهم علما عِنْدِي وأنفعهم تصنيفا وأشهرهم ذكرا رجال أَرْبَعَة متقاربون فِي الْعَصْر.

أَوَّلهمْ أَبُو عبد الله البُخَارِيّ وَكَانَ غَرَضه تَجْرِيد الْأَحَادِيث الصِّحَاح المستفيضة الْمُتَّصِلَة من غَيرهَا، واستنباط الْفِقْه والسيرة وَالتَّفْسِير مِنْهَا، فصنف جَامعه الصَّحِيح، ووفى بِمَا شَرط، وبلغنا أَن رجل من الصَّالِحين رأى رَسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَنَامه وَهُوَ يَقُول: مَالك اشتغلت بِفقه مُحَمَّد بن إِدْرِيس وَتركت كتابي، قَالَ: يَا رَسُول الله وَمَا كتابك؟ قَالَ: صَحِيح البُخَارِيّ ولعمري أَنه نَالَ من الشُّهْرَة وَالْقَبُول دَرَجَة لَا يرام فَوْقهَا.

وثانيهم مُسلم النَّيْسَابُورِي، توخى تَجْرِيد الصِّحَاح الْمجمع عَلَيْهَا بَين الْمُحدثين الْمُتَّصِلَة المرفوعة مِمَّا يستنبط مِنْهُ السّنة، وَأَرَادَ تقريبها إِلَى الأذهان وتسهيل الاستنباط مِنْهَا، فرتب ترتيبا جيدا، وَجمع طرق كل حَدِيث فِي مَوضِع وَاحِد، ليتضح اخْتِلَاف الْمُتُون، وتشعب الاسانيد أصرح مَا يكون وَجمع بَين المختلفات فَلم يدع لمن لَهُ معرفَة لِسَان الْعَرَب عذرا فِي الْأَعْرَاض عَن السّنة إِلَى غَيرهَا.

وثالثهم أَبُو دَاوُد السجسْتانِي، وَكَانَ همته جمع الْأَحَادِيث الَّتِي اسْتدلَّ بهَا الْفُقَهَاء، ودارت فيهم، وَبنى عَلَيْهَا الْأَحْكَام عُلَمَاء الْأَمْصَار، فصنف سنَنه، وَجمع فِيهَا الصِّحَاح وَالْحسن واللين والصالح للْعَمَل، قَالَ أَبُو دَاوُد: مَا ذكرت فِي كتابي حَدِيثا أجمع النَّاس على تَركه، وَمَا كَانَ مِنْهَا ضَعِيفا صرح بضعفه، وَمَا كَانَ فِيهِ عِلّة بَينهَا بِوَجْه يعرفهُ الخائض فِي هَذَا الشَّأْن، وَترْجم على كل حدث بِمَا قد استنبط مِنْهُ عَالم، وَذهب إِلَيْهِ ذَاهِب، وَلذَلِك صرح الْغَزالِيّ وَغَيره بِأَن كِتَابه كَاف للمجتهد.

ورابعهم أَبُو عِيسَى التِّرْمِذِيّ، وَكَأَنَّهُ اسْتحْسنَ طَريقَة الشَّيْخَيْنِ حَيْثُ بَينا وَمَا أبهما، وَطَرِيقَة أبي دَاوُد حَيْثُ جمع كل مَا ذهب إِلَيْهِ ذَاهِب، مجمع كلتا الطريقتين وَزَاد عَلَيْهَا بَيَان مَذَاهِب الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ وفقهاء الْأَمْصَار

فَجمع كتابا جَامعا وَاخْتصرَ طرق الحَدِيث

<<  <  ج: ص:  >  >>