الْمُقدمَة الأولى أعلم أَن فِي الْإِنْسَان ثَلَاث لطائف تسمى بِالْعقلِ، وَالْقلب، وَالنَّفس، دلّ على ذَلِك النَّقْل، وَالْعقل، والتجربة، واتفاق الْعُقَلَاء.
أما النَّقْل فقد ورد فِي الْقُرْآن الْعَظِيم:
{إِن فِي ذَلِك لآيَات لقوم يعْقلُونَ} .
وَورد حِكَايَة عَن أهل النَّار:
{لَو كُنَّا نسْمع أَو نعقل مَا كُنَّا من أَصْحَاب السعير} .
وَورد فِي الحَدِيث:
" أول مَا خلق الله تَعَالَى الْعقل وَقَالَ لَهُ: أقبل فَأقبل، وَقَالَ: أدبر فَأَدْبَرَ، فَقَالَ: بك أؤاخذ "، وَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
" دين الْمَرْء عقله، وَمن لَا عقل لَهُ لَا دين لَهُ " وَقَالَ:
" أَفْلح من رزق لبا " وَهَذِه الْأَحَادِيث أَن كَانَ لأهل الحَدِيث فِي ثُبُوتهَا مقَال فَإِن لَهَا أَسَانِيد يُقَوي بَعْضهَا بَعْضًا، وَورد فِي الْقُرْآن الْعَظِيم:
{وَاعْلَمُوا أَن الله يحول بَين الْمَرْء وَقَلبه} .
وَورد:
{إِن فِي ذَلِك لذكرى لمن كَانَ لَهُ قلب أَو ألْقى السّمع وَهُوَ شَهِيد} .
وَفِي الحَدِيث
" أَلا أَن فِي الْجَسَد مُضْغَة إِذا صلحت صلح الْجَسَد وَإِذا فَسدتْ فسد الْجَسَد أَلا وَهِي الْقلب " وَورد " مثل الْقلب كريشة فِي فلاة تقلبها الرِّيَاح ظهرا لبطن " وَورد فِي الحَدِيث " النَّفس تتمنى وتشتهي والفرج يصدق ذَلِك ويكذبه ".
وَيعلم من تتبع مَوَاضِع الِاسْتِعْمَال أَن الْعقل هُوَ الشَّيْء الَّذِي يدْرك بِهِ الْإِنْسَان مَا لَا يدْرك بالحواس، وَأَن الْقلب هُوَ الشَّيْء الَّذِي بِهِ يحب الْإِنْسَان، وَيبغض، ويختار، ويعزم، وَأَن النَّفس هُوَ الشَّيْء الَّذِي بِهِ يَشْتَهِي الْإِنْسَان مَا يستلذه من المطاعم والمشارب والمناكح.
وَأما الْعقل فقد ثَبت فِي مَوْضِعه أَن فِي بدن الْإِنْسَان ثَلَاث أَعْضَاء رئيسية بهَا تتمّ القوى، والأفاعيل الَّتِي تقتضيها صُورَة نوع الْإِنْسَان، فالقوى الإدراكية من التخيل والتوهم وَالتَّصَرُّف فِي المتخيلات والمتوهمات، والحكاية للمجردات بِوَجْه من الْوُجُوه محلهَا الدِّمَاغ. وَالْغَضَب. الجرأة. وَالشح. وَالرِّضَا. والسخط وَمَا يشبهها محلهَا الْقلب، وَطلب مَا لَا يقوم الْبدن إِلَّا بِهِ أَو بِجِنْسِهِ مَحَله الكبد، وَقد يدل فتور بعض القوى إِذا حدثت آفَة فِي بعض هَذِه الْأَعْضَاء على اختصاصها بهَا، ثمَّ إِن فعل كل وَاحِد من هَذِه الثَّلَاثَة لَا يتم إِلَّا بمعونة من الآخرين، فلولا إِدْرَاك مَا فِي الشتم أَو الْكَلَام الْحسن من الْقبْح وَالْحسن وتوهم النَّفْع والضر مَا هاج غضب وَلَا حب، وَلَوْلَا متانة الْقلب لم يصر المتصور مُصدقا بِهِ، وَلَوْلَا معرفَة المطاعم والمناكح