الْحَواس لِلْعَقْلِ مَا أدركنا شَيْئا، فَإِن الكسبيات فرع البديهيات والبديهيات فرع المحسوسات، وَلَوْلَا صِحَة كل عُضْو من الْأَعْضَاء الَّتِي يتَوَقَّف عَلَيْهَا صِحَة الْقلب والدماغ لما كَانَ لَهَا صِحَة وَلَا تمّ لَهما فعل، وَلَكِن كل وَاحِد مِنْهُمَا بِمَنْزِلَة ملك اهتم بِأَمْر عَظِيم من فتح قلعة صعبة أَو نَحوه، فاستمد من إخوانه بجيوش ودروع ومدافع وَهُوَ الْمُدبر فِي فتح القلعة وَإِلَيْهِ الحكم وَمِنْه الرَّأْي، وَإِنَّمَا هم خدم يَمْشُونَ على رَأْيه، فَجَاءَت صور الْحَوَادِث على حسب الصِّفَات الْغَالِبَة فِي الْملك من جراءته وجبنه وسخائه وبخله وعدالته وظلمه، فَكَمَا يخْتَلف الْحَال باخْتلَاف الْمُلُوك وآرائهم وصفاتهم - وَإِن كَانَت الجيوش والآلات متشابهة - فَكَذَلِك يخْتَلف حكم كل رَئِيس من الرؤساء الثَّلَاثَة فِي مملكة بدن الْإِنْسَان.
وَبِالْجُمْلَةِ الأفاعيل المنبجسة من كل وَاحِد من هَذِه الثَّلَاثَة تكون مُتَقَارِبَة فِيمَا بَينهَا، إِمَّا مائلة إِلَى الإفراط والتفريط، أَو قارة فِيمَا بَين هَذَا وَذَاكَ، فَإِذا اعْتبرنَا هَذِه الهياكل الثَّلَاثَة مَعَ أفاعيلها المتقاربة وأمزجتها الَّتِي تَقْتَضِي تِلْكَ الأفاعيل المتقاربة دَائِما فَهِيَ اللطائف الثَّلَاث الَّتِي يبْحَث عَنْهَا، لَا تِلْكَ القوى بذواتها من غير اعْتِبَار شَيْء مَعهَا.