للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

وَطَوَائِف الصُّوفِيَّة ذكرُوا هَذِه اللطائف، واعتنوا بتهذيب كل وَاحِدَة إِلَّا أَنهم أثبتوا لطيفتين أُخْرَيَيْنِ أَيْضا، واهتموا بهما اهتماما عَظِيما: وهما الرّوح، والسر، وتحقيقهما أَن الْقلب لَهُ وَجْهَان: وَجه يمِيل إِلَى الْبدن والجوارح، وَوجه يمِيل إِلَى التجرد والصرافة، وَكَذَلِكَ الْعقل لَهُ وَجْهَان: وَجه يمِيل إِلَى الْبدن والحواس، وَوجه يمِيل إِلَى التجرد والصرافة، فسموا مَا يَلِي جَانب السّفل قلبا وعقلا، وَمَا يَلِي جَانب الفوق روحا وسرا، فصفة الْقلب الشوق المزعج والوجد، وَصفَة الرّوح الْأنس والانجذاب، وَصفَة الْعقل الْيَقِين بِمَا يقرب مأخذه من مَأْخَذ الْعُلُوم العادية كالأيمان بِالْغَيْبِ، والتوحيد الأفعالي، وَصفَة السِّرّ شُهُود مَا بِحل عَن الْعُلُوم العادية، وَإِنَّمَا

هُوَ حِكَايَة مَا عَن الْمُجَرّد الصّرْف الَّذِي لَيْسَ فِي زمَان وَلَا مَكَان، وَلَا يُوصف بِوَصْف وَلَا يشار إِلَيْهِ بِإِشَارَة، وَالشَّرْع لما كَانَ نازلا على ميزَان الصُّورَة الإنسانية دون الخصوصيات الفردية لم يبْحَث عَن التَّفْصِيل كثير بحث، وَترك مباحثها فِي مخدع الْإِجْمَال، وَسَائِر الْملَل والنحل أَيْضا عِنْدهم علم من ذَلِك يعرف بالاستقراء مَعَ نوع من التفطن.

الْمُقدمَة الثَّانِيَة: اعْلَم أَن الرجل العتيك الَّذِي مكنت مادته لظُهُور أَحْكَام النَّوْع فِيهَا كَامِلا وافرا وَهُوَ رَئِيس أَفْرَاد الْإِنْسَان بالطبع، والدستور الَّذِي يعرف جَمِيع الْأَفْرَاد قربا من الْحَد الْأَعْلَى، وبعدا مِنْهُ بِالنّظرِ إِلَيْهِ هُوَ الَّذِي غلب عقله على قلبه مَعَ قُوَّة قلبه وسوغ قواه وقهر قلبه عل نَفسه ووفور مقتضياتها فَهَذَا هُوَ الَّذِي تمت أخلاقه، وقويت فطرته، ودونه أَصْنَاف كَثِيرَة مُتَفَاوِتَة تظهر التَّأَمُّل الصَّحِيح.

وَأما الْحَيَوَان الْأَعْجَم فَفِيهِ القوى الثَّلَاث أَيْضا إِلَّا أَن عقله مغلوب قلبه وَنَفسه فِي الْغَايَة فَلم يسْتَحق التَّكْلِيف، وَلَا لحق بالملا الْأَعْلَى، وَهُوَ قَوْله تبَارك وَتَعَالَى.

{وَلَقَد كرمنا بني آدم وحملناهم فِي الْبر وَالْبَحْر ورزقناهم من الطَّيِّبَات وفضلناهم على كثير مِمَّن خلقنَا تَفْضِيلًا} .

وَهَذَا الرجل العتيك إِن كَانَ عقله منقادا للعقائد الحقة الْمَأْخُوذَة من الصَّادِقين الأخذين عَن الْمَلأ الْأَعْلَى صلوَات الله عَلَيْهِم فَهُوَ الْمُؤمن حَقًا، وَإِن كَانَ لَهُ مَعَ ذَلِك سَبِيل إِلَى الْمَلأ الْأَعْلَى يَأْخُذ عَنْهُم بِغَيْر وَاسِطَة فَفِيهِ شُعْبَة من النُّبُوَّة وميراث مِنْهَا، وَهُوَ قَوْله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " الرُّؤْيَا

الصَّالِحَة جُزْء من سِتَّة وَأَرْبَعين جُزْءا من النُّبُوَّة، وَإِن كَانَ عقله منقادا لعقائد زائغة مَأْخُوذَة من المضلين المبطلين فَهُوَ الملحد الضال، وَإِن كَانَ عقله منقادا لرسم قومه وَلما أدْركهُ بالتجربة وَالْحكمَة العملية فَهُوَ الْجَاهِل لدين الله،

<<  <  ج: ص:  >  >>