للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

وَلما كَانَ الْأَمر على ذَلِك وَجب فِي حكمه الله تَعَالَى أَن ينزل كتابا على أزكى خلق الله وأعتكهم وأشبههم بالملأ الْأَعْلَى، ثمَّ يجمع إِلَيْهِ الآراء حَتَّى تصير أَحْكَامه من المشهورات الذائعة.

{ليهلك من هلك عَن بَيِّنَة ويحيا من حَيا عَن بَيِّنَة} .

وَأَن يبين لَهُم هَذَا النَّبِي صلوَات الله وَسَلَامه عَلَيْهِ طرق الْإِحْسَان والمقامات الَّتِي هِيَ ثمراته أتم بَيَان.

وَبِالْجُمْلَةِ إِذا آمن الرجل بِكِتَاب الله تَعَالَى، أَو بِمَا جَاءَ بِهِ نبيه صلوَات الله عَلَيْهِ وَسَلَامه من بَيَانه إِيمَانًا يستتبع جَمِيع قواة القلبية والنفسية، ثمَّ اشْتغل بالعبودية حق الِاشْتِغَال ذكرا بِاللِّسَانِ وتفكراً بالجنان وادبا بالجوارح، ودام على ذَلِك مُدَّة مديدة شرب كل وَاحِد من هَذِه اللطائف الثَّلَاث حَظه من الْعُبُودِيَّة، وَكَانَ الْأَمر شَبِيها بالدوحة الْيَابِسَة تسقى المَاء الغزير، فَيدْخل الرّيّ كل غُصْن من أَغْصَانهَا وكل ورقة من أوراقها، ثمَّ ينْبت مِنْهَا الأزهار وَالثِّمَار، فَكَذَلِك تدخل الْعُبُودِيَّة فِي هَذِه اللطائف الثَّلَاث وَتغَير صفاتها الطبيعية الخسيسة إِلَى الصِّفَات الملكية الفاضلة.

فَتلك الصِّفَات إِن كَانَت ملكات راسخة تستمر أفاعيلها على نهج وَاحِد وأنهاج مُتَقَارِبَة، فَهِيَ المقامات، وَإِن كَانَت بوارق تبدو تَارَة، وتنمحي أُخْرَى، وَلما تَسْتَقِر بعد، أَو هِيَ أُمُور لَيْسَ من شَأْنهَا الِاسْتِقْرَار كالرؤيا والهواتف وَالْغَلَبَة تسمى أحوالا وأوقاتا.

وَلما كَانَ مُقْتَضى الْعقل فِي غلواء الطبيعة البشرية التَّصْدِيق بِأُمُور ترد عَلَيْهِ مناسباتها صَار من مُقْتَضَاهُ بعد تهذيبه الْيَقِين بِمَا جَاءَ بِهِ الشَّرْع كَأَنَّهُ يُشَاهد كل ذَلِك عيَانًا كَمَا أخبر زيد بن حَارِثَة حِين قَالَ لَهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " لكل حق حَقِيقَة فَمَا حَقِيقَة إيمانك؟ فَقَالَ كَأَنِّي أنظر إِلَى عرش الرَّحْمَن بارزا ".

وَلما كَانَ مُقْتَضَاهُ أَيْضا معرفَة الْأَسْبَاب لما يحدث من نعْمَة ونقمة صَار من مُقْتَضَاهُ بعد تهذيبه التَّوَكُّل، وَالشُّكْر، وَالرِّضَا، والتوحيد

وَلما كَانَ من مُقْتَضى الْقلب فِي أصل الطبيعة محبَّة الْمُنعم المربى وبغض المنافر الشانئ. وَالْخَوْف عَمَّا يُؤْذِيه. والرجاء لما يَنْفَعهُ كَانَ مُقْتَضَاهُ بعد التَّهْذِيب محبَّة الله تَعَالَى وَالْخَوْف من عَذَابه ورجاء ثَوَابه، وَلما كَانَ من مُقْتَضى النَّفس فِي غلواء طبيعتها والانهماك فِي الشَّهَوَات والدعة كَانَ صفتهَا عِنْد تهذيبها التَّوْبَة والزهد وَالِاجْتِهَاد،

<<  <  ج: ص:  >  >>