للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

وَمِنْهَا الصديقية، والمحدثية، وحقيقتها أَن من الْأمة من يكون فِي أصل فطرته شَبِيها بالأنبياء بِمَنْزِلَة التلميذ الفطن للشَّيْخ الْمُحَقق، فتشبهه إِن كَانَ بِحَسب القوى الْعَقْلِيَّة فَهُوَ الصّديق أَو الْمُحدث، وَإِن كَانَ تشبهه بِحَسب الْقود العملية فَهُوَ الشَّهِيد والحواري، وَإِلَى هَاتين القبيلتين وَقعت الْإِشَارَة فِي قَوْله تَعَالَى:

{وَالَّذين آمنُوا بِاللَّه وَرُسُله أُولَئِكَ هم الصديقون وَالشُّهَدَاء} .

وَالْفرق بَين الصّديق. والمحدث أَن الصّديق نَفسه قريبَة المأخذ من نفس النَّبِي، كالكبريت بِالنِّسْبَةِ إِلَى النَّار، فَكلما سمع من النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَبرا وَقع فِي نَفسه بموقع عَظِيم، ويتلقاه بِشَهَادَة نَفسه حَتَّى صَار كَأَنَّهُ علم هاج فِي نَفسه من غير تَقْلِيد، وَإِلَى هَذَا الْمَعْنى الْإِشَارَة فِيمَا ورد من أَن أَبَا ابا بكر الصّديق كَانَ سمع دوِي صَوت جِبْرِيل حِين كَانَ ينزل بِالْوَحْي على النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالصديق تنبعث من نَفسه لَا محَالة محبَّة الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَشد مَا يُمكن من الْحبّ، فيندفع إِلَى الْمُوَاسَاة مَعَه بِنَفسِهِ وَمَاله والموافقة لَهُ فِي كل حَال حَتَّى يخبر النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من حَاله أَنه " أَمن النَّاس عَلَيْهِ فِي مَاله وصحبته " وَحَتَّى يشْهد لَهُ النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنَّهُ لَو أمكن أَن يتَّخذ خَلِيلًا من النَّاس لَكَانَ هُوَ ذَلِك الْخَلِيل، وَذَلِكَ لتعاقب وُرُود أنوار الْوَحْي من نفس النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى نفس الصّديق، وفكلما تكَرر التَّأْثِير والتأثر وَالْفِعْل والانفعال حصل الفناء وَالْفِدَاء، وَلما كَانَ كَمَاله الَّذِي هُوَ غَايَة مَقْصُوده بِصُحْبَة النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وباستماع كَلَامه لَا جرم كَانَ أَكْثَرهم لَهُ صُحْبَة.

وَمن علامه الصّديق أَن يكون أعبر النَّاس للرؤيا، وَذَلِكَ لما جبل عَلَيْهِ من تلقي الْأُمُور الغيبية بِأَدْنَى سَبَب، وَلذَلِك كَانَ النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يطْلب التَّعْبِير من الصّديق فِي واقعات كَثِيرَة، وَمن عَلامَة الصّديق أَن يكون أول النَّاس إِيمَانًا وَأَن يُؤمن بِغَيْر معْجزَة.

والمحدث تبادر نَفسه إِلَى بعض معادن الْعلم فِي الملكوت، فتأخذ مِنْهُ علوما مِمَّا هيأه الْحق هُنَاكَ؛ ليَكُون شَرِيعَة للنَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وليكون إصلاحا لنظام بني آدم وَإِن لم ينزل الْوَحْي بعد على النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كَمثل رجل يرى فِي مَنَامه كثيرا من الْحَوَادِث الَّتِي أجمع فِي الملكوت على إيجادها.

وَمن خَاصَّة الْمُحدث أَن ينزل الْقُرْآن على وفْق رَأْيه فِي كثير من الْحَوَادِث، وَأَن يرى النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَنَامه أَنه أعطَاهُ اللَّبن بعد ريه.

وَالصديق أولى النَّاس بالخلافة لِأَن نفس الصّديق تصير وكرا لعناية الله بِالنَّبِيِّ ونصرته لَهُ وتأييده إِيَّاه حَتَّى يصير كَأَن روح النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ينْطق بِلِسَان الصّديق، وَهُوَ قَول عمر حِين دَعَا النَّاس إِلَى بيعَة الصّديق، فَإِن يَك مُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد مَاتَ فَإِن الله قد جعل بَين

<<  <  ج: ص:  >  >>