للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

وَرجل ذكر الله خَالِيا، فَفَاضَتْ عَيناهُ " وَقَالَ: " لَا يلج النَّار رجل بَكَى من خشيَة الله حَتَّى يعود اللَّبن فِي الضَّرع " وَكَانَ أَبُو بكر رجلا بكاء لَا يملك عَيْنَيْهِ حِين يقْرَأ الْقُرْآن، وَقَالَ جُبَير بن مطعم: سَمِعت النَّبِي الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقْرَأ:

{أم خلقُوا من غير شَيْء أم هم الْخَالِقُونَ} فَكَأَنَّمَا طَار قلبِي.

وَأما المقامات الْحَاصِلَة للنَّفس من جِهَة تسلط نور الْإِيمَان عَلَيْهَا وقهره إِيَّاهَا وتغيير صفاتها الخسيسة إِلَى الصِّفَات الفاضلة، فأولها أَن ينزل نور الْإِيمَان من الْعقل المتنور وبالعقائد الحقة إِلَى الْقلب، فيزدوج بجبلة الْقلب، فيتولد بَينهمَا زاجر يقهر النَّفس، ويزجرها عَن المخالفات، ثمَّ يتَوَلَّد بَينهمَا نَدم يقهر النَّفس، وَيَأْتِي عَلَيْهَا، وَيَأْخُذ بتلابيبها، ثمَّ يتَوَلَّد بَينهَا الْعَزْم على ترك الْمعاصِي فِي الْمُسْتَقْبل من الزَّمَان، فيقهر النَّفس، ويجعلها مطمئنة بأوامر الشَّرْع ونواهيه، قَالَ الله تبَارك وَتَعَالَى:

{وَأما من خَافَ مقَام ربه وَنهى النَّفس عَن الْهوى فَإِن الْجنَّة هِيَ المأوى} .

أَقُول: أما قَوْله: (من خَافَ) فبيان لاستنارة الْعقل بِنور الْإِيمَان ونزول النُّور مِنْهُ إِلَى الْقلب وَذَلِكَ لِأَن الْخَوْف لَهُ مُبْتَدأ ومنتهى، فمبتدؤه

معرفَة الْخَوْف مِنْهُ وسطوته، وَهَذَا مَحَله الْعقل ومنتهاه فزع وقلق ودهش، وَهَذَا محلّة الْقلب، وَأما قَوْله: (وَنهى النَّفس) فبيان لنزول النُّور المخالط لوكاعة الْقلب إِلَى النَّفس وقهره إِيَّاهَا وزجره لَهَا، ثمَّ انقهارها وانزجارها تَحت حكمه، ثمَّ ينزل من الْعقل نور الْإِيمَان مرّة أُخْرَى، ويزدوج بجبلة الْقلب، فيتولد بَينهمَا اللجأ إِلَى الله، ويفضي ذَلِك إِلَى الاسْتِغْفَار والإنابة، وَالِاسْتِغْفَار يُفْضِي إِلَى الصقالة.

قَالَ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِن الْمُؤمن إِذا أذْنب كَانَت نُكْتَة سَوْدَاء فِي قلبه فَإِن تَابَ واستغفر صقل قلبه، فَإِن زَاد زَادَت حَتَّى يَعْلُو قلبه فذلكم الران الَّذِي ذكر الله تَعَالَى:

{كلا بل ران على قُلُوبهم مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} .

أَقُول: أما النُّكْتَة السَّوْدَاء فظهور ظلمَة من الظُّلُمَات البهيمية واستنارة نور من الْأَنْوَار الملكية، وَأما الصقالة فضوء يفاض على النَّفس من نور الْإِيمَان، وَأما الران فغلبة البهيمية، وكمون الملكية رَأْسا، ثمَّ يتَكَرَّر نزُول نور الْإِيمَان، وَدفعه الهاجس النفساني، فَكلما هجس خاطر الْمعْصِيَة من النَّفس نزل بإزائه نور، فدمغ الْبَاطِل ومحاه.

<<  <  ج: ص:  >  >>