للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

الْإِمْسَاك عَن مُوجبهَا، وَحَقِيقَة هَذِه الْغَلَبَة فيضان علم إلهي من بعض الْمَعَادِن القدسية على قوته العملية دون الْقُوَّة الْعَقْلِيَّة.

تَفْصِيل ذَلِك أَن النَّفس المتشبهة بنفوس الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم الصَّلَاة وَالسَّلَام إِذا استعدت لفيضان علم إلهي إِن سبقت الْقُوَّة الْعَقْلِيَّة مِنْهَا على الْقُوَّة العملية كَانَ ذَلِك الْعلم المفاض فراسة وإلهاما، وَإِن سبقت الْقُوَّة العملية مِنْهَا على الْقُوَّة الْعَقْلِيَّة كَانَ ذَلِك الْعلم المفاض عزما وإقبالا أَو نفرة وانجحاماً، مِثَاله مَا روى فِي قصَّة بدر من أَن النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ألح فِي الدُّعَاء حَتَّى قَالَ:

" إِنِّي أنْشدك عَهْدك وَوَعدك، اللَّهُمَّ إِن شِئْت لم تعبد، فَأخذ أَبُو بكر

بِيَدِهِ، فَقَالَ: حَسبك، فَخرج رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يَقُول:

{سَيهْزمُ الْجمع وَيُوَلُّونَ الدبر} .

مَعْنَاهُ أَن الصّديق ألْقى فِي قلبه دَاعِيَة الإلهية تزهده فِي الإلحاح، وترغيه فِي الْكَفّ عَنهُ فَعرف النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بفراسته أَنَّهَا دَاعِيَة حق، فَخرج مستظهرا بنصرة الله تاليا هَذِه الْآيَة.

ومثاله أَيْضا مَا روى فِي قصَّة موت عبد الله بن أَبى حِين أَرَادَ النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَن يُصَلِّي على جنَازَته قَالَ عمر: فتحولت حَتَّى قُمْت فِي صَدره، قلت: يَا رَسُول الله أَتُصَلِّي على هَذَا، وَقد قَالَ: يَوْم كَذَا كَذَا وَكَذَا أعد أَيَّامه؟ حَتَّى قَالَ: تَأَخّر عني يَا عمر إِنِّي خيرت، فاخترت، وَصلى عَلَيْهِ، ثمَّ نزلت هَذِه الْآيَة:

{وَلَا تصل على أحد مِنْهُم مَاتَ أبدا} .

قَالَ عمر: فعجبت لي وجرأتي على رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أعلم.

وَقد بَين عمر الْفرق بَين الغلبتين أفْصح بَيَان، فَقَالَ فِي الْغَلَبَة الأولى: فَمَا زلت أَصوم وأتصدق وَأعْتق الخ، وَقَالَ فِي الثَّانِيَة: فعجبت لي وجرأتي، فَانْظُر الْفرق بَين هَاتين الْكَلِمَتَيْنِ.

وَمِنْهَا إِيثَار طَاعَة الله تَعَالَى على مَا سواهُ وطرد موانعها والنفرة عَمَّا يشْغلهُ عَنْهَا كَمَا فعل أَبُو طَلْحَة الْأنْصَارِيّ كَانَ يُصَلِّي فِي حَائِط لَهُ، فطار دبسى وطفق يتَرَدَّد، وَلم يجد مخرجا من كَثْرَة الأغصان والأورق، فأعجبه ذَلِك، فَصَارَ لَا يدْرِي كم صلى، فَتصدق بحائطه.

وَمِنْهَا غَلَبَة الْخَوْف حَتَّى يظْهر الْبكاء وارتعاد الْفَرَائِض، وَكَانَ لَهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذا صلى بِاللَّيْلِ أزيز كأزيز الْمرجل، قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي سَبْعَة يظلهم الله تَعَالَى فِي ظله يَوْم لَا ظلّ إِلَّا ظله: "

<<  <  ج: ص:  >  >>