ثمَّ مست الْحَاجة إِلَى التَّرْغِيب فِي مُقَدمَات الْجِهَاد الَّتِي لَا يَتَأَتَّى الْجِهَاد فِي الْعَادة إِلَّا بهَا كالرباط والرعي وَغَيرهمَا لِأَن الله تَعَالَى إِذا أَمر بِشَيْء وَرَضي بِهِ وَعلم أَنه لَا يتم إِلَّا بِتِلْكَ الْمُقدمَات كَانَ من مُوجبَة الْأَمر بهَا وَالرِّضَا عَنْهَا.
ورد فِي الرِّبَاط أَنه " خير من الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا " وَأَنه " خير من صِيَام شهر وقيامه وَإِن مَاتَ أجْرى عَلَيْهِ عمله الَّذِي كَانَ عمله وأجرى عَلَيْهِ رزقه وَأمن الفتان ".
أَقُول: أما سر كَونه خيرا من الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا فَلِأَن لَهُ ثَمَرَة بَاقِيَة فِي الْمعَاد، وكل نعيم من نعيم الدُّنْيَا لَا محَالة زائل ...
وَأما كَونه خيرا من صِيَام شهر وقيامه فَلِأَنَّهُ عمل شاق يَأْتِي على البهيمية لله وَفِي سَبِيل الله كَمَا يفعل ذَلِك الصّيام وَالْقِيَام. .
وسر إِجْرَاء عمله أَن الْجِهَاد بعضه مبْنى على بعض بِمَنْزِلَة الْبناء وَيقوم الْجِدَار على الأساس وياقوم السّقف على الْجِدَار، وَذَلِكَ لِأَن الْأَوَّلين من الْمُهَاجِرين وَالْأَنْصَار كَانُوا سَبَب دُخُول قُرَيْش وَمن حَولهمْ فِي الْإِسْلَام ثمَّ فتح الله على أَيدي هَؤُلَاءِ الْعرَاق وَالشَّام، ثمَّ فتح الله على أَيدي هَؤُلَاءِ الْفرس وَالروم، ثمَّ فتح الله على أَيدي هَؤُلَاءِ الْهِنْد وَالتّرْك والسودان، فالنفع الَّذِي يَتَرَتَّب على الْجِهَاد يتزايد حينا فحينا وَصَارَ بِمَنْزِلَة الْأَوْقَاف
والرباطات وَالصَّدقَات الْجَارِيَة.
وَأما الْأَمْن من الفتان يَعْنِي الْمُنكر والنكير فَإِن الْمهْلكَة مِنْهُمَا على من لم يطمئن قلبه بدين مُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلم ينْهض لنصرته، أما المرابط على شَرطه فَهُوَ جَامع الهمة على تَصْدِيق ناهض الْعَزِيمَة على تمشية نور الله.
قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
" من جهز غازيا فِي سيل الله فقد غزا وَمن خلف غازيا فِي أَهله فقد غزا " وَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
" أفضل الصَّدَقَة ظلّ فسطاط فِي سَبِيل الله " وَنَحْو ذَلِك.
أَقُول: السِّرّ فِي ذَلِك أَنه عمل نَافِع للْمُسلمين يَتَرَتَّب عَلَيْهِ نصرتهم، وَهُوَ الْمَعْنى فِي الْغَزْو أَو الصَّدَقَة.
وَقَالَ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
" لَا يكلم أحد فِي سَبِيل الله وَالله أعلم بِمن يكلم فِي سَبيله إِلَّا حاء يَوْم الْقِيَامَة وجرحه يثغب دَمًا اللَّوْن لون الدَّم وَالرِّيح ريح الْمسك ".
أَقُول: الْعَمَل يلتصق بِالنَّفسِ بهيئته وَصورته ويجر مَا فِيهِ معنى التضاعف بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْعَمَل والمجازاة مبناها على تمثل النِّعْمَة والراحة بِصُورَة اقْربْ مَا هُنَاكَ، فَإِذا جَاءَ الشَّهِيد يَوْم الْقِيَامَة ظهر عَلَيْهِ عمله وتنعم بِهِ بِصُورَة مَا فِي الْعَمَل.