وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَام صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَوْله تَعَالَى:
{وَلَا تحسبن الَّذين قتلوا فِي سَبِيل الله أَمْوَاتًا بل أَحيَاء عِنْد رَبهم يرْزقُونَ} . الْآيَة
" أَرْوَاحهم فِي جَوف طير خضر لَهَا قناديل معلقَة بالفرش تسرح فِي الْجنَّة حَيْثُ شَاءَت ثمَّ تأوي إِلَى تِلْكَ الْقَنَادِيل ".
أَقُول: الَّذِي يقتل فِي سَبِيل الله يجْتَمع فِيهِ خصلتان: إِحْدَاهمَا أَنه تبقى
نسمته وافرة كَامِلَة لم تضمحل علومها الَّتِي كَانَت منغمسة فِيهَا فِي حَيَاتهَا الدُّنْيَا وَإِنَّمَا هُوَ بِمَنْزِلَة رجل مَشْغُول بِأَمْر معاشه ينَام نومَة بِخِلَاف الْمَيِّت الَّذِي ابْتُلِيَ بأمراض شَدِيدَة تغير مزاجه وتنسيه كثيرا مِمَّا كَانَ فِيهِ.
وَالثَّانيَِة أَنه شملته الرَّحْمَة الإلهية المتوجهة إِلَى نظام الْعَالم الممتلئ مِنْهَا حَظِيرَة الْقُدس وَالْمَلَائِكَة المقربون، فَلَمَّا زهقت نَفسه وَهِي ممتلئة من السَّعْي فِي إِقَامَة دين الله فتح بَينه وَبَين حَظِيرَة الْقُدس فيح وَاسع، وَنزل من هُنَاكَ الْأنس وَالنعْمَة والراحة، وتنفست إِلَيْهِ حَظِيرَة الْقُدس نفسا مثاليا، فيتمثل الْجَزَاء حَسْبَمَا عِنْده، فتركبت من اجْتِمَاع هَاتين الخصلتين أُمُور عَجِيبَة:
مِنْهَا أَنه تتمثل نَفسه معلقَة بالعرش بنحوما، وَذَلِكَ لدُخُوله فِي حَملَة الْعَرْش وطموح همته إِلَى مَا هُنَاكَ.
وَمِنْهَا أَنه تمثل لَهُ بدن طير أَخْضَر، فكونه طيرا لِأَنَّهُ من الْمَلَائِكَة بِمَنْزِلَة الطير من دَوَاب الأَرْض فِي ظُهُور أَحْكَام الْجِنْس إِجْمَالا وَكَونه أَخْضَر لحسن منظره.
وَمِنْهَا أَنه تتمثل نعْمَته وراحته بِصُورَة الرزق كَمَا كَانَ يتَمَثَّل النِّعْمَة فِي الدُّنْيَا بالفواكه والشواء.
ثمَّ مست الْحَاجة إِلَى تَمْيِيز مَا يُفِيد تَهْذِيب النَّفس مِمَّا لَا يفِيدهُ وَهُوَ مشتبه بِهِ فَإِن الشَّرْع أَتَى بأمرين: بانتظام الْحَيّ وَالْمَدينَة. وَالْملَّة؛ وبتكميل النُّفُوس.
قيل: الرجل يُقَاتل للمغنم وَالرجل يُقَاتل للذّكر. وَالرجل يُقَاتل
ليرى مَكَانَهُ، فَمن يُقَاتل فِي سَبِيل الله؟ قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
" من قَاتل لتَكون كلمة الله هِيَ الْعليا فَهُوَ فِي سَبِيل الله " أَقُول: وَذَلِكَ لما ذكرنَا من أَن الْأَعْمَال أجساد، وَأَن النيات أَرْوَاح لَهَا، وَإِنَّمَا