هنا بدأت الفلسفة الواقعية الطبيعية تطفو على السطح إلى درجة أن صار الإنسان أحد مكونات الطبيعة، لكنه يمتلك طاقات وقدرات بشرية هائلة، ومهمة التربية تربية الطاقات والقدرات هذه منذ الصغر، حتى يستطيع الإنسان السيطرة على الطبيعة ويقترب من مرحلة الكمال الإلهي.
وبالرغم من أن فكرة الكونية والطبيعة أتت في المقدمة في فكر كومينيوس وديكارت، وبيكون، وجون هس، وغيرهم، إلا أنهم لم يكونوا قد تخلصوا من الفكرة المثالية بعد؛ فالإنسان قد صنع في صورة إله، وإنسانية الإنسان قد بنيت على العقل، فلا سلطة سواه، ولا مقياس للحقيقة إلا بالمبادي والمعايير التي يضعها، وقد ألقى هذا على عاتق مناهج التربية تبعة تعليم الناس وتنمية مواهبهم الطبعية، كما ألقى على عاتق الناس تبعة الاستمرار في التربية للوصول إلى الكمال.
ولقد انقلب مفهوم "الكون" رأسا على عقب في النظريتين: النفعية "البراجماتية" والتطبيقية "الماركسية"، فهاتان النظريتان تعتمدان على الفلسفتين: الطبعية والواقعية وأفكار دارون المتطورة عنها، وعلى الفلسفة التجريبية الميدانية. فالواقعية تتمسك بأن الكون هو هذه الأشياء الموجودة في هذا العالم المحسوس، وأن هذا العالم المحسوس هو عالم حقيقي في حد ذاته، وأن هذا العالم والأشياء الموجودة به لا يعتمد في وجوده على إدراك عقل الله أو عقل الإنسان، فالواقعيون الطبعيون يرفضون أي شيء وراء الطبيعة!
والحياة الإنسانية بكل أبعادها الجسمية والعقلية والروحية والخلقية هي حدث طبيعي عادي، يمكن عزوه في كل أبعاده إلى العمليات العادية للطبيعة، فالطبيعة خالقة للإنسان والحياة، فهي مصدر الإنسان، ومصدر المعرفة، ومصدر الحياة.
وعلى هذا فالتربية تعتمد على الخبرة والتجربة والملاحظة، والطبيعة هي مصدر مناهج التربية، فهي تحتوي على الصدق؛ فالصدق حقيقة يمكن ملاحظتها، وهذا الصدق يمكن الحصول عليه بواسطة الفحص العلمي للطبيعة.
وقد أثر هذا الفكر على حركة التربية والمناهج في أمريكا، ثم انتقل إلى أوربا على يدي عدد من المفكرين من أمثال هيربارت سبنسر وشيلر وغيرهما، حتى إن الملاحظ الآن لحركة التربية والمناهج في أوربا يجد أنها أقرب إلى هذا المنظور منها إلى نظريتها التقليدية القديمة التي كانت تستحوذ على التفكير التربوي الأوربي حتى نهاية الحرب العالمية الثانية.