للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

بل رآهم أيضًا خطرًا على دولته، وكذلك شعر الخلفاء من بعده، وخاصة لتلك الثورات التي كانت تنشب ضدهم في إيران مثل ثورة المقنَّع الخراساني الذي كان يزعم أن الذات الإلهية تجسدت في أبي مسلم ثم حلَّت فيه، ومثل ثورة خليفته بابك الْخُرَّمي لعهد المأمون. ويجمل لنا المهدي تعاليمهم في وصيته لابنه الهادي إذ يقول له١:

"يا بني إن صار لك الأمر فتجرد لهذه العصابة "الزنادقة"؛ فإنها فرقة تدعو الناس إلى ظاهر حسن كاجتناب الفواحش والزهد في الدنيا والعمل للآخرة، ثم تخرجهم إلى تحريم اللحم ومس الماء الطهور وترك قتل الهوامّ تحرجًا وتحوُّبًا، ثم تخرجهم من هذه إلى عبادة اثنين أحدهما النور والآخر الظلمة، ثم تبيح بعد هذا نكاح الأخوات والبنات والاغتسال بالبول وسرقة الأطفال من الطرق لتنقذهم من ضلال الظلمة إلى هداية النور؛ فارفع فيها الخشب وجرد فيها السيف، وتقرب بأمرها إلى الله لا شريك له".

ولم يُقم المهدي لهم ديوان الزنادقة فحسب؛ بل دعا أيضًا المتكلمين والمعتزلة للرد عليهم وتأليف الكتب في نقض عقيدتهم، ومن يقرأ الحيوان للجاحظ يرى إلى أي حد شغل المعتزلة من أمثال النظّام أنفسهم بمناظراتهم ودَحْض معتقداتهم؛ فهم وأمثالهم من الدهريين شغلهم الشاغل. ويسوق الجاحظ ثبتًا طريفًا يضم من كان يتزندق من الشعراء، وهم -حسب إحصائه- الْحَمَّادون الثلاثة: حماد عجرد حماد الراوية وحماد بن الزّبْرِقان ويونس بن أبي فروة وعلى بن الخليل ويزيد بن الفيض ويونس بن هارون وعمارة بن حمزة وجميل بن محفوظ ومطيع بن إياس وقاسم بن زنقطة ووالبة بن الحباب وأبان بن عبد الحميد٢. ويَعجَبُ من زندقة أبان ويقول٣:

"أما اعتقاده فلا أدري ما أقول لك فيه؛ لأن الناس لم يؤتوا في اعتقادهم الخطأ المكشوفَ من جهة النظر، ولكن للناس تأسٍّ وعادات وتقليد للآباء


١ الطبري "طبعة أوروبا" ٣/ ٥٨٨.
٢ انظر الحيوان ٤/ ٤٤٦ وما بعدها، وقارن بأمالي المرتضي ١/ ١٣١.
٣ الحيوان ٤/ ٤٥١.

<<  <   >  >>