للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

والكبراء، ويعملون عن الهوى، وعلى ما يسبق إلى القلوب، ويستثقلون التحصيلَ ويهملون النظر، حتى يصيروا في حال متى عاودوه وأراده نظروا بأبصار كليلة وأذهان مدخولة ومع سوء عادة. والنفس لا تجيب هي مستكرهة، وكان يقال: العقل إذا أكره عمي. ومتى عمي الطبع وجَسا وغلظ وأهمل حتى يألف الجهل لم يكد الفهم ما عليه وله؛ فلهذا وأشباهه قاموا على الإلف والسابق إلى القلب".

ويظهر أن أصحاب هذه الدعوة من الفرس كانوا لا يكتفون باعتناقها؛ فقد كانوا يدعون إليها مَنْ حولهم، ودخل في اعتقادهم غير عربي مثل مطيع بن إياس الكناني ووالبة بن الحباب الأسدي إن صحت عروبتهما؛ على أننا نلاحظ أن كثير ممن كانوا يتهمون بالزندقة في العصر إنما اتهموا بها من أجل فسقهم ومجونهم واستجابتهم لغرائزهم الشاذة، ونحن لا نستطيع أن نبرئ منها مطيعًا، فقد أحضرت ابنته إلى الرشيد للتحقيق معها في تهمة الزندقة، فأقرت بها، وقالت: "هذا دين علَّمنيه أبي". وهناك جماعة قتلوا بها، ونفس قتلهم يشهد شهادة قاطعة بزندقتهم؛ فقد قتل المهدي بشارًا، وإذا رجعنا إلى شعره وجدناه يشيد بعبادة النار في بيته المشهور١:

الأرضُ مظلمةٌ والنَّارُ مشرقةٌ ... والنار معبودةٌ مذ كانت النارُ

واستمد من ذلك دليلًا على أن إبليس خير من آدم؛ لأنه خلق من نار، أما آدم فخلق من طين، فقال٢:

إبليس أفضل من إبيكم آدم ... فتنبهوا يا معشر الفُجَّار

النارُ عنصره وآدم طينةٌ ... والطين لا يسمو سُمُّو النارِ

ولما كثر منه ذلك نادى واصل بن عطاء في الناس أن يقتلوه؛ ففرَّ إلى البصرة ولم يزل غائبها عنها حتى توفِّي واصل، بل حتى عمرو بن عبيد، وردَّ عليه صفوان الأنصاري بشعر مفحم٣ غير أنه عاد إلى البصرة وعادت معه زندقته، حتى سفك


١ البيان والتبيين ١/ ١٦.
٢ رسالة الغفران "نشرة كامل كيلاني" ٢/ ١٣٧.
٣ البيان والتبيين ١/ ٢٧ وما بعدها.

<<  <   >  >>