للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

المهديُّ دمه. وممن قتله المهدي على الزندقة صالح بن عبد القُدُّوس الأزدي، وكان يعلن في البصرة مذهبه في الثنوية. ويقال أن أبا الهذيل العلاف المتكلم ناظره فقطعه، ثم قال له: على أي شيء تعزم يا صالح؟ فقال: أستخير الله وأومن بالاثنين. ولما علم بأن ديوان الزنادقة يرصده هرب إلى دمشق؛ فطلبه المهدي وزجَّ به في سجن تلك الفئة الباغية، حتى يحاكمَ، فقال في سجنه:

خرجنا من الدنيا ونحن من أهلها ... فلسنا من الأحياء فيها ولا الموتى

قُبِرْنَا ولم ندفن فنحن بمعزلٍ ... من الناس لا نُخْشَى فنُغْشى ولا نَغْشى

وقيل: إنه صلى صلاة تامة الركوع والسجود؛ فقيل له: ما هذا ومذهبك معروف: قال سُنَّة البلد وعادة الجسد وسلامة الأهل والولد. وأحضر للمحاكمة بحضرة المهدي فنوظر فيها اتُّهم به من الزندقة؛ فأظهر التوبة، فقال له المهدي ألست القائل في حفظك ما أنت عليه:

رُبَّ سرٍّ كتمتُه فكأني ... أخرسٌ أو ثَنَي لسَانِي خَبْلُ

ولو أني أبديتُ للناس علمي ... لم يكن لي في غير حَبْسىَ أَكْلُ

قال: فإني أتوب وأرجع، فقال له المهدي: هيهات! ألست القائل:

والشيخُ لا يترك أخلاقه ... حَتى يُوَارَى في ثَرَى رَمْسه

إذا ارعوى عاوده جهلُه ... كذي الضَّنا عاد إلى نُكْسِه

ثم قُدِّم، فقتل وصُلب على الجسر ببغداد١. ووراء صالح وبشار شعراء كانوا زنادقة حقًّا، ولم يقتلوا، وكأن التهمة لم تثبت عليهم في جلاء لديوان الزنادقة والقائمين عليه. ومن كبار الزنادقة حماد عجرد، يقول أبو نواس: "كنت أتوهم أن حماد عجرد؛ إنما يرمى بالزندقة لمجونه في شعره، حتى حُبِسْتُ في حَبْس الزنادقة، فإذا حماد عجرد إمام من أئمتهم، وإذا له شعر مزاوج بيتين بيتين يقرءون به في صلاتهم٢". وأبو نواس خير من يصور الصنف الثاني من الزنادقة التي كانت تلصق بهم هذه التهمة بسبب مجونهم، وبسبب ما قد يبدر على


١ انظر في أخبار صالح أمالي المرتضي ١/ ١٤٤ وما بعدها، وتاريخ بغداد للخطيب البغدادي ٩/ ٣٠٣.
٢ أغاني "طبعة دار الكتب" ١٤/ ٣٢٤.

<<  <   >  >>