للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

ألسنتهم في قصفهم وشربهم من أبيات مارقة على شاكلة قوله١

يا ناظرًا في الدين ما الأمر ... لا قدرٌ صحَّ ولا جَبْرُ

ما صح عندي من جميع الذي ... تذكر إلا الموت والقَبْرُ

ولكن هذا كان تعابثًا ومجانة، وكان القائمون على ديوان الزنادقة يميزون بينه وبين الزندقة الحقيقية؛ فيكتفون بحبس أبي نواس حين يأمرهم بعض الخلفاء أو بعض الوزراء تعذيرًا له، حتى يرتدّ عن غيّه.

على أن هذا الجانب في حياة المجتمع العباسي وما انطوى فيه من زندقة ومجون ينبغي ألا يضع غشاوة على أعيننا فلا نرى هذا المجتمع على حقيقته.

لقد كان فيه لهو وترف، وكان تحفة عقائد الزنادقة والدهريين؛ ولكن ذلك إنما كان يشيع في بعض البيئات وفي دور المجانة والخلاعة. أما بعد ذلك فقد كانت هناك كثرة من يتّبعون سبيل الرشاد، وكان هناك الزهاد والعباد من أمثال عمرو بن عبيد وموسي بن سيّار الأسواري وعمرو بن فائد والقاسم بن يحيى وصالح المرِّي، هؤلاء الذي ملئوا العراق بزهدهم ومواعظهم. وكان هناك تلاميذ أبي حنيفة وابن حنبل وأضرابهما من أصحاب الشريعة الإسلامية وحملة الحديث. وكان هناك المعتزلة الذين وهبوا أنفسهم للذود عن حياض الإسلام والرد على الملاحدة والزنادقة. وكان هناك رابعة العدوية وأمثالها من الزاهدات.

فموجة الزهد لم تكن أقل حدة من موجة المجون، ويُظَنُّ أنه دخلتها عناصر أجنبية مختلفة من زهد الهنود، وزهد المسيحية ورهبانها، وحتى من زهد المانوية. ولعلنا لا نعجب بعد ذلك إذا رأينا بعض الشعراء الماجنين مثل أبي نواس تجري على ألسنتهم أشعار رقيقة في الزهد٢.

وكان صالح بن عبد القدوس على زندقته يكثر من الترغيب عن الدنيا والزهد فيها، ولا يني يذكر الموت والقبر٣. وكان شعره كله أمثالًا وحكمًا،


١ انظر الوساطة ص٦٣، والموشح ص٢٧٦.
٢ انظر باب الزهد في ديوان أبي نواس.
٣ طبقات الشعراء لابن المعتز ص٩١.

<<  <   >  >>