للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

حتى قالوا إن ديوانه يشتمل على ألف مثل عربي وألف مثل أعجمي١، ويعجب ابن المعتزة مما يُرْوَى عنه من زندقته، ويَرْوي له بعض أشعاره زاهدة٢ من مثل قوله:

وليس بعجز المرء إخطاؤه الغنى ... ولا باحتيال أدرك المال كاسبه

ولكنه قبضُ الإله وبَسْطُه ... فلا ذا يجاريه ولا ذا يغالبه

إذا كمَّل الرحمن للمرء عقلَهُ ... فقد كملتْ أخلاقه ومناقبه

وقوله في أصحاب القبور:

ألا أحد يبكي لأهل محله ... مقيمين في الدنيا وقد فارقوا الدنيا

كأنهم لم يعرفوا غير دارهم ... ولم يعرفوا غير التضايق والبلوى

وقوله:

فوحقِّ من سمك السماء بقدرة ... والأرض صيَّر للعباد مِهَادا

إن المصرَّ على الذنوب لهالكٌ ... صَدَّقت قولي أو أردت عنادا

وربما كان أكبر من تغنَّى بالمهد في هذا العصر أبو العتاهية، وقد بدأ حياته ماجنًا أشد ما يكون المجون، ثم حانت منه التفاتة فزهد في حطام الدنيا ولبس الصوف، وأخذ يتغنى بالموت والفناء وما ينتظر الناس من ظلمة القبر ووحشته على شاكلة قوله٣:

حتى متى أنت في لهو وفي لعب ... والموت نحوك يهوى فاغرًا فاه؟

ما كل ما يتمنى المرء يدركه ... رب امرئ حتفه فيما تمناه

تغترّ للجهل بالدنيا وزخرفها ... إن الشقيّ لمن غرته دنياه

كأن حيًّا وقد طالت سلامته ... قد صار في سكرات الموت تغشاه

نلهو وللموت مُمْسَانا وَمُصْبَحنا ... من لم يصبِّحه وجه الموت مسَّاه

ولا يزال على هذا النحو يتحدث عن مصير الإنسان الذي ينتظره وأن من


١ التحفة البهية ٢١٧.
٢ طبقات الشعراء ص٩١ وما بعدها.
٣ ديوان أبي العتاهية "طبعة بيروت سنة ١٨٨٦" ص٢٩٢.

<<  <   >  >>