للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

وإنما يصف شيئًا وصف له١. وكذلك كان شأنه في استخدامه للغريب، ومن ثم رفض اللغويون الاستشهاد بأقواله وأشعاره٢.

ومعنى ما قدمنا أن عصر بني أمية يمدنا بأمثلة فردية لشعراء عاشوا في البصرة والكوفة وأخذت العربية على ألسنتهم تتأثر باللغات الأجنبية، وكان يتسع هذا التأثر عند الشعراء الموالي بسبب ما كانوا يرتضخون من لكنات لغاتهم وما كانوا يستعيرونه أحيانًا من ألفاظ تلك اللغات. وكان بعض الشعراء من العرب مثل الطرماح لا يرى بأسًا في أن يعرب بعض ألفاظ النبط الآراميين أو بعض الألفاظ الفارسية وأخذ هو وغيره من العرب المتحضرين يبتعدون عن السليقة العربية بحكم نشأتهم في الحاضرة وبعدهم عن ينابيع اللغة الحقيقية.

وندخل في العصر العباسي؛ فإذا الشعراء جميعًا يتحضرون على شاكلة الطرماح والكميت، ولقد كانا هما وأضرابهما في العصر الأموى شذوذًا بين جرير والفرزدق والأخطل وذي الرمة وأمثالهم ممن ملئوا العراق بأشعارهم، صادرين فيها عن سليقة عربية سليمة وفطرة بدوية صحيحة. أما في العصر العباسي فقد تبدل الحال؛ إذ أصبحت الكثرة الكثيرة من الشعراء تنشأ في المدن لا في البادية كما كان الشأن في زمن الأمويين، وليس هذا فحسب فإن كفَّة الفرس رجحت على كفة العرب لا في شئون الدولة والسياسة فقط بل أيضًا في الشئون الأدبية والعقلية، وبُنيت بغداد على حدود بلادهم وزخرت بسيولهم، وأصبحنا في عصر جديد ليس للعرب فيه من سلطان ولا سيادة إلا سيادة الأسرة الحاكمة، أما بعد ذلك فكل شيء للفرس.

غير أن هذا الانقلاب العنيف في الشئون السياسية لم يصب اللغة العربية بسوء؛ فإن الفرس لم يحاولوا استخدام لغتهم في شئون الدولة الرسمية وكان كثير منهم قد تعرَّب، بل قد تكن من العربية حتى اتخذها لسانه في التعبير عن مشاعره وأفكاره، وعدَّها مثله الأعلى في البيان والبلاغة. وظلت الأجيال التالية تشعر هذا الشعور بقوة، وكان من أهم ما دعمه أن العربية كانت لغة القرآن


١ الأغاني ١٥/ ١٢٠.
٢ الموشح ١٩١، ١٩٢، ٢٠٨، ٢٠٩.

<<  <   >  >>