للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

ومسائلها المختلفة، وحتى علم اللغة والنحو لم يخلوا من أثر هذه الثقافات وطرائقها ومناهجها في النظر وبحث المشاكل، وصلة النحو بالمنطق اليوناني مقررة، وقد وضع الخليل معجمًا للعربية بترتيب مخارج الحروف متأثرًا بالهنود في ترتيب حروف لغتهم، وهيأته معرفته بعلم الموسيقى لوضع عروض الشعر العربي وأوزانه.

وطبيعي أن يكون لهذه العلاقات الثقافية الجديدة التي عملت عملًا نافذًا في عقلية العباسيين أثرها الواسع في شعرائهم؛ فإنهم لم يكونوا بعيدين عنها، بل كانوا يتصلون بها اتصالًا وثيقًا. وإذا كنا لاحظنا قبلًا صلتهم بالزندقة الفارسية فإن صلتهم بالمحتويات الأخرى للثقافات الأجنبية لم تكن تقل عن صلته بالزندقة، ومر بنا أن ديوان صالح بن عبد القدوس كان يشتمل على ألف مثل للعرب وألف مثل للعجم، ونراهم يروون عن العَتَّابي التغلبي أنه كان يتقن الفارسية وأنه رحل إلى "مرو" فكتب كتب العجم، ولما سئل في ذلك قال: "وهل المعاني إلا في كتب العجم والبلاغة، اللغة لنا، والمعاني لهم١". ومن يرجع إلى ترجمته في كتاب الأغاني يجد له ضربًا من الشعر القصير الذي يشبه الأمثال كقوله في مديح عبد الله بن طاهر:

ودُّك يكفينيك في حاجتي ... ورؤيتي كافية عن سؤالْ

وكيف أخشى الفقر ما عشت لي ... وإنَّما كفاك لي بيتُ مال

وقوله في مديح جعفر بن يحيى البرمكي٣:

ما زلت في غمرات الموت مطَّرَحًا ... قد ضاق عني فسيح الأرض من حيلي

ولم تزل دائبًا تسعى بلطفك لي ... حتى اختلستَ حياتي من يدي أجلي

وقوله٤:

هَيْبةُ الإخوان قاطعةٌ ... لأخي الحاجات عن طَلَبِهْ

فإذا ما هبتَ ذا أملٍ ... مات ما أمَّلْتَ من سَبَبِه


١ الجزء السادس من تاريخ بغداد لطيفور ص١٥٧ وما بعدها.
٢ أغاني "طبعة دار الكتب" ١٣/ ١١٧.
٣ أغاني ١٣/ ١١٩.
٤ أغاني ١٣/ ١١٦.

<<  <   >  >>