للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

وأكبر الظن أن العَتَّابي كان يتأثر في هذه القطع القصيرة معاني فارسية، وكان يتأثر هذه المعاني أبناء الفرس أنفسهم، فهم أصحابها، وهي كنوز كانت ملقاة تحت أعينهم. ولعلنا لا نبعد إذا قلنا أن الهجاء القصير الذي شاع عند بشار بن برد وحماد عَجْرد وأضرابهما؛ إنما نشأ من هذا التأثر بمعاني الفرس وأمثالهم، وكان بشار خاصة يكثر من الأمثال والحكم في شعره. ويَدْخُلُ في هذا الجانب ما تسرب إلى الشعر من أخيلة فارسية، كقول بعض الشعراء١:

لو لم تكن نِيَّة الجوزاء خدمَتَهُ ... لما رأيتَ عليها عقد مُنْتَطِقِ

ويقال: إن شاعرًا قرأ قول كسرى في وصف النرجس أنه: "ياقوت أصفر بين در أبيض على زمرد أخضر" فقال وزاد عليه:

وياقوتة صفراء في رأس دُرَّة ... مركَّبة في قائم من زَبَرْجَد

كأن بقايا الطّلّ في جنباتها ... بقيَّةُ دمعٍ فوق خَدٍّ مورّد٢

وعلى نحو ما كانت العلاقات قائمة بين الشعراء والثقافة الفارسية كذلك كانت قائمة بينهم وبين الثقافة الهندية؛ فقد كانوا يعرفون ما نقل عنها في الفلك وغير الفلك وقد تسرب إليهم كثير من آراء الهنود وأفكارهم وقصصهم كقصة بوذا الملك الذي هجر ملكه، وساح في الأرض عابدًا لربِّه؛ فقد اتخذ منه أبو العتاهية مثالًا للرجل الفاضل فقال٣:

يا من تشرّف بالدنيا وزينتها ... ليس التشرّف رَفْعَ الطين بالطين

إذا أردت شريف الناس كلهم ... فانظر إلى ملكٍ في زي مسكينِ

ونقل إليهم ما تزعمه الهند في علم الطبائع من أن الشيء إذا أفرط في البرد عاد حارًّا مؤذيًا، وعرف ذلك أبو نواس، فقال٤:

قل لزهير إِذَا حَدَا وَشَدَا ... أَقْلِلْ وَأَكْثِرْ فَأَنْتَ مهذارُ

سَخُنْتَ من شدة البرودة حتَّـ ... ـى صرتَ عندي كأنك النار


١ معاهد التنصيص ٢/ ١٥.
٢ زهر الآداب ٢/ ٢٠٩، وانظر ٢/ ٢١١.
٣ ديوان أبي العتاهية ص٢٧٤.
٤ الشعر والشعراء ص٥٠٦، وانظر عيون الأخبار ٢/ ٧.

<<  <   >  >>