للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

فعش واحدًا أو صِلْ أخاك فإنه ... مقارفُ ذنبٍ مرّةً ومجانبه١

إذا أنت لم تشرب مرارًا على القذى ... ظمئت وأي الناس تصفو مشاربه

وما نشك في أن كثرة هذه الأدلة في شعره جاءته من بيئة المتكلمين، وما كانت تعتمد عليه في جدالها من أقيسة المنطق والترتيب لمقدماتها الصحيحة واندفع يستنبط كثيرًا من دقائق المعاني ولطائف الفكر؛ كقوله في بعض ممدوحيه٢:

ليس يعطيك للرجاء ولا الخو ... ف ولكن يَلَذُّ طعم العطاءِ

فإنك تراه يفكر تفكيرًا جديدًا؛ إذ يجعل العطاء بدون غاية خارجة عن نفسه، وهي فكرة لم تكن تقع في عقل الشاعر القديم؛ إنما تقع في عقل الشاعر العباسي الجديد الذي لا يزال يغرق في التفكير حتى يتصور الأشياء مجردة عن غاياتها، وإذا كان المتكلمون اشتهروا بمغالطاتهم أو بتأتِّيهم لتعليلاتهم، أو كما يقول البلاغيون بحسن التعليل؛ فإننا نجد من ذلك أصباغًا كثيرة في شعر بشار كتعليله لآفته بقوله٣:

عَميتُ جنينًا والذكاء من العَمى ... فجئت عجيب الظن للعلم موئلًا

وقوله في جارية سوداء٤:

وغادة سوداء برّاقةٍ ... كالماء في طيب وفي لين

كأنها صيغت لمن نالها ... من عنبر بالمسك معجون

وقوله في بعض ممدوحيه -إن صح أنه له٥:

لمستُ بكفي كفَّه أبتغي الغنى ... ولم أدر أن الجود من كفه يُعْدِي

فلا أنا منه ما أفاد ذوو الغنى ... أفدت وأعداني فأتلفت ما عندي

وتكثر هذه التعليلات في شعر بشار، كما تكثر معها الموازنة والتقسيمات والبعد في التأويل واستخراج المعاني، على شاكلة قوله٦:


١ مقارف: مرتكب.
٢ أغاني ٣/ ١٨٩.
٣ أغاني ٣/ ١٤٢.
٤ أغاني ٣/ ١٩٣.
٥ أغاني ٣/ ١٥٠.
٦ البيان والتبيين ١/ ٤.

<<  <   >  >>