للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

وعِيّ الفعال كعيِّ المقالِ ... وفي الصمت عِيٌّ كعيّ الكَلِمْ

وأنت تراه لا يخصص العيَّ بالكلام. بل يجعله في الفعال، بل هو يذهب إلى أبعد من ذلك، فيقيم في الصمت عِيًّا كعي الكلام؛ فإذا العي على أقسام: عي الصمت وعي الفعال وعي المقال. وأكبر الظن أن هذا التقسيم الطريف هو الذي ألهم الجاحظ رسالته في تفضيل الكلام على الصمت وخروجه عما ألفه الناس في أمثالهم.

وإذا تركنا بشارًا وجيله إلى الجيل التالي الذي خلفه وجدنا أبا نواس الثائر على التقاليد والأوضاع خير من يمثله، وكان كثير الاختلاف إلى مجالس المتكلمين، ولاحظ الجاحظ في بيانه أنه استعار كثيرًا من ألفاظهم ومصطلحاتهم على وجه التظرف والتملح كقوله في جنان١:

وذات خَدٍّ مورَّد ... قوهيَّةِ المتجرَّدْ٢

تأمَّلُ العينُ منها ... محاسنًا ليس تنفد

فبعضها قد "تناهى" ... وبعضها "يتولد"

والحسن في كل عضوٍ ... منها معاد مردَّدْ

وقوله:

يا عاقدَ القلب عني ... هَلَّا تذكرت حَلّا

تركت مني قليلًا ... من القليل أقلّا

يكاد لا يتجزّا ... أقل في اللفظ من لا

ويُرْوَى أن النظام سمع منه الأبيات الأخيرة فقال له: "أنت أشعر الناس في هذا المعنى، والجزء الذي لا يتجزأ مذ دهرنا الأطول نخوض فيه ما خرج فيه لنا من القول ما جمعته أنت فيه في بيت واحد٣". ولم يكن أبو نواس ينهج نهج المتكلمين في ذكر مصطلحاتهم فحسب؛ بل كان ينهج نهجهم أيضًا في


١ البيان والتبيين ١/ ١٤١، وانظر أخبار أبي نواس ص١٣ حيث ساق ابن منظور له طائفة من معاني المتكلمين وألفاظهم.
٢ قوهيّة: أراد بيضاء، والقوهي: ضرب من الثياب البيض.
٣ أخبار أبي نواس ص١٣.

<<  <   >  >>