للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

توليد المعاني واستنباط غرائبها، حتى قالوا: "مازالت المعاني مكنوزة في الأرض حتى جاء أبو نواس فاستخرجها١. ولم يكن يغرب في معانيه إغرابًا قريبًا، بل كان يبعد في إغرابه، حتى ليصوِّر الحسي بالمعنوي على شاكلة قوله في الخمر٢:

وقد خفيتْ من لطفها فكأنها ... بقايا يقينٍ كاد يذهبه الشك

وقوله٣:

صَفتْ وصفت زجاجتها عليها ... كمعنى دقَّ في ذهنٍ لطيفِ

وقوله٤:

فتمشت في مفاصلهم ... كتمشي البُرْءَ في السَّقَمِ

قلما نجد بعد أبي نواس شاعرًا ممتازًا إلا وهو يلزم المتكلمين المعتزلة، وقد عُدّ أبو تمام منهم، وكان ابن الرومي ينزع منزعهم، ومعروف أن النظام من متقدميهم، وقد نال شهرة مدوية على رأس المائتين بقدرته على الجدال وغوصه على المعاني الدقيقة، ولم يكن متكلمًا يحسن الكلام فحسب، بل كان شاعرًا أيضًا، وكان يستقي شعره من الكلام والجدل، على شاكلة قوله٥:

مازلتُ آخذ روح الدَّن في لُطُفٍ ... أستبيح دمًا من غير مذبوحِ

حتى انثنيت ولي روحان في جسدي ... والزِّقُّ مطَّرَحًا جسمٌ بلا روحِ

وقوله٦:

توهمه طرفي فآلم خَدّه ... فكان مكان الهم من نظري أثرُ

وصافحه قلبي فآلم كفه ... فمن صفح قلبي في أنامله عَقْرُ٧

ومر بقلبي خاطرًا فجرحته ... ولم خلقًا قط يجرحه الفكر

يمر فمن لينٍ وحسن تعطف ... يقال به سكر وليس به سكر


١ أخبار أبي نواس ص٦٤.
٢ خزانة الأدب للحموي "طبع المطبعة الخيرية" ص١٨٣.
٣ خزانة الأدب ص١٨٤.
٤ الديوان ص٣٢٤.
٥ طبقات الشعراء لابن المعتز ص٢٧٢.
٦ أمالي المرتضي "طبعة الحلبي" ١/ ١٨٨.
٧ العقر: الجرح.

<<  <   >  >>