للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

العربية التي هيأته للتفوق في فن الشعر، وساعدته في ذلك نشأته اللغوية، واختلافه إلى المربد، وأيضًا خروجه إلى البادية حتى يأخذ اللغة من ينابيعها الأصلية. وبذلك تحولت إليه السليقة اللغوية العربية تحولًا لفت إليه الأنظار، حتى كان لا يقول ما يُسْتَكْره في شعره١؛ بل حتى كان يميز تمييزًا دقيقًا بين جيد الشعر ورديئه وصحيحه ومنحوله٢:

وكثير في حياة بشار يملأ نفوسنا عليه ازدراء؛ فنحن نزدري فجره وتهتكه وفسقه وزندقته وشعوبيته، وقد لقي عند المهدي جزاءه وإن جاء متأخرًا. غير أننا إذا تركنا هذه الجوانب السيئة في حياته إلى شعره وجدنا معاصريه ومن جاءوا بعدهم يجمعون على أنه هو الذي نهج للعباسيين طريقتهم الجديدة، وهي طريقة كانت تعتمد اعتمادًا شديدًا على الأصول التقليدية للشعر القديم، حتى لتبدو فيه نزعة محافظة وخاصة في مدائحه، فإن الإطار فيها لا يختلف عن الإطار القديم إلا قليلًا؛ إذ يستوفي فيها قيم التعبير الجزلة وكل ما تقتضيه الجزالة من رصانة وقوة في البناء، ومعنى ذلك أن بشارًا الفارسي الجنس قد أثر فيه مرباه العربي حتى أصبح عربيًّا خالصًا في أسلوبه وتعبيره. ولا يعني ذلك أنه كان غائبًا في مديحه عن عصره؛ فهو يزاوج بين الماضي والحاضر: يصف الأطلال والصحراء ولكن بذوق حضري جديد فيه رقة، وفيه دقة في استنباط المعاني وتوليدها. إنه ربيب بيئة المتكلمين، وقد أخذ عنهم قدرتهم في بسط الأدلة وتفصيل الأفكار وتفريعها وتشعيب المعاني وتشقيقها، كما أخذ عن الفرس أمثالهم وحكمهم، وتحول إلى معاني الشعر الجاهلي يستخرج منها ما لا يحصى من خواطر، ويستطيع أن يتبين ذلك كل من يقرأ مديحه؛ فنسيجه العام قديم، ولكن خيوطًا كثيرة جديدة تلمع في هذا النسيج، حتى في نماذجه الموغلة في التشبه بالبدو، ونقصد الأراجيز، مثل أرجوزته التي سبق أن تحدثنا عنها والتي نظمها تحديًّا لعقبة بن رؤبة إذ نراه يقول في تشبيهها٣:

صدت بخد وجلت عن خد ... ثم انثنت كالنَّفَسِ الْمُرْتَد


١ أغاني ٣/ ١٤٩
٢ أغاني ٣/ ١٤٣
٣ أغاني٣/ ١٧٥، وديوان بشار "طبعة لجنة التأليف والترجمة والنشر" ٢/ ٢١٨.

<<  <   >  >>