للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

يختلف إلى حلقات اللُّغويين وخاصة حلقة خلف١، وهو الذي دفعه إلى حفظ مئات الأراجيز، ويقال: إنه خرج إلى البادية سنةً؛ لينهل من ينابيع اللغة الأصلية. ولم يختلف أبو نواس إلى حلقات اللغويين وحدهم بل اختلف أيضًا إلى حلقت الفقهاء والمحدثين٢ والمتكلمين، حتى قالوا: إنه بدأ حياته متكلمًا ثم نظم الشعر٣، ومر بنا في غير هذا الموضع كيف كان يجلب إلى شعره ألفاظ المتكلمين ومصطلحاتهم.

ولعلنا بذلك كله نستطيع أن نعرف مكونات شخصيته الأدبية، وهي تقترب من مكونات بشار؛ فقد ألَمَّ بثقافات عصره إلمامًا واسعًا وورِثَ عن الفرس حدَّة مزاجهم وأخذت البيئة الماجنة تؤجج هذه الحدة، بكل ما أخذه عن والبة وأضرابه، حتى لنجده يخطو في الفسق والمجون خطوات بالقياس إلى بشار؛ إذ أخذ يتغنى بالغِلمان، وكأنما لم تكفِهِ الجواري، وإن كان ابن المعتز يلاحظ أنه كان يكثر من ذلك تمويهًا وخداعًا عن فسقه الحقيقي بالجواري والإماء٤، وربما كان لِمَ اتُّهِمَ به من شذوذ أثر في ذلك؛ فاندفع يعلن على رءوس الأشهاد كذب ما يقال عنه، ومن ثم قد يكون من الخطأ أن نبالغ في تصوير هذه الوصمة عند أبي نواس وأن نبحث نفسيته على أساسها.

علي أن من الممكن أن تكون مجاهرة أبي نواس بغلامياته ضربًا من التظرف والدعابة كان يسوقه في مجالس جماعته الماجنة من أمثال الخاركي وأبي يعقوب التمار وأبي هفان والحسين بن الضحاك الخليع٥ ويشهد معاصروه بأنه كان ظريفًا يخلب الناس بظرفه وكثرة ملحه٦، وهو في ذلك يختلف عن بشار؛ فبشار في مزاحه جد وصرامة، أما أبو نواس فليس فيه من الجد والصرامة شيء


١ طبقات الشعراء، ص١٩٤، ومن قول أبي نواس في رثائه:
كنا متى ما ندن مني نغترف ... رواية لا تجتني من الصحف
٢ طبقات الشعراء، ص٢٠١.
٣ نفس المصدر، ص٢٧٢.
٤ طبقات الشعراء، ص٣٠٩.
٥ انظر تراجمهم في "طبقات الشعراء" وصلتهم بأبي نواس.
٦ طبقات الشعراء، ص١٩٥.

<<  <   >  >>