للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

وكان يشعر بذلك في نفسه؛ بل كان يتخذ إليه كل وسيلة حتى ليقول١:

أتتبَّعُ الظرفاءَ أكتب عنهمُ ... كيما أحدِّث من أحبُّ فيضحكا

وجعله هذا الجانب قريبًا إلى أهل عصره من خلفاء ووزراء فكانوا يرسلون في طلبه إلى مجالسهم فيفاكههم ويسوق لهم نوادر تضحكهم، ولعل ذلك ما جعله يتحول في بعض القصص إلى شخصية مضحكة، وهي وظيفة كان يقوم بها أبو دُلامة معاصره؛ لكن لا شك أن الناس في بغداد كانوا يتناقلون عنه نوادر كثيرة أعدت لنمو شخصيته القصصية المضحكة مع مر الزمن، ومما يدخل في هذا الباب ورواه الجاحظ عنه أن مجنونًا موسوسًا يسمى أبا الحاسب كان يهذي بأنه سيصير ملكًا وأنه أُلْهِمَ ما يحدث في الدنيا من الملاحم؛ فكان أبو نواس يقول أشعارًا على لسانه، وما يزال يوردها على سمعه له حتى يحفظها، وكان يتحدث فيها عما سيقع عبثًا ودعابة، ويروي الجاحظ من تلك الأشعار٢.

ومثل هذه الشخصية ينبغي أن نتأنى في الحكم عليها، وأن لا نظن أن كل ما تنظمه يصور نفسيتها أو وقائعها؛ فكثير منه نظم تظرفًا ودعابة وعبثًا، ونستطيع أن نضع في هذا الجانب من التعابث أطرافًا مما في شعره من شعوبية وزندقة وخروج على الإسلام من مثل قوله السابق٣:

يا ناظرًا في الدين ما الأمر؟ ... لا قدرٌ صحَّ ولا جَبْرُ

ما صح عندي من جميع الذي ... تذكرُ إلا الموت والقبر

وقوله٤:

يا أحمد المترجى في كل نائبة ... قم سيِّدي نعصِ جبار السماوات

ومثل هذا كثير في ديوانه، ولا نشك في أنه كان ينظمه أثناء معاقرته للخمر هزلا وفكاهة. وأيضًا لا بد أن نلاحظ شيئًا آخر هو كثرة ما حمل عليه من شعر الخمر والمجون، يقول ابن المعتز: "إن العامة الحمقى قد لهجت بأن


١ الحيوان للجاحظ، ٤/ ٧٥.
٢ البيان والتبيين، ٢/ ٢٢٨.
٣ انظر: الوساطة، ص٦٣. والموشح، ص٢٧٧.
٤ الديوان ص٢٥٠.

<<  <   >  >>