للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

تنسب كل شعر في المجون إلى أبي نواس وكذلك تصنع في أمر مجنون بني عامر، كل شعر فيه ذكر ليلى تنسبه إلى المجنون"١. ولا نبالغ إذا قلنا أن دواوين الحسين بن الضحاك الخليع ونظرائه من المجان تلك التي فقدت قد دخلت في ديوان أبي نواس. لذلك يكون من الخطأ أن نحمل عليه كل ما جاء في ديوانه وإن كنا بعد ذلك لا ننفي عنه جملة خمرياته وغزلياته العابثة فكثير منها روي عند الجاحظ وابن المعتز وأضرابهما من النقاد الأثبات، ومن المؤكد أنه كان ماجنًا عابثًا على فكاهة فيه. وأقوى ما تتجلى ملكة الشعر عنده في خمرياته، وكان يحتذي فيها على مثال الوليد بن يزيد٢، وقد استشهدنا فيما أسلفنا بمثل منها عنده، وطرائفها عند أبي نواس أكثر من أن تستقصى؛ إذ كان يعرف كيف يولد في المعاني وكيف يستخرج دفائنها ودقائقها، كما كان يعرف كيف يأتي بالصور النادرة من مثل قوله٣:

وكئوس كأنههن نجوم ... جارياتٌ بروجها أيدينا

طالعاتٌ مع السقاة علينا ... فإذا ما غربن يغربن فينا

وقوله٤:

وكأسٍ كمصباحِ السماءِ شربتُها ... على قبلةٍ أو موعدٍ بلقاءِ

أتت دونها الأيام حتى كأنها ... تساقط نور من فتوق سماء

وهو على هذه الشاكلة في غزله أيضًا؛ إذ كان يعرف كيف ينوع في معانيه، وكيف يستمد من أوعية القديم في الحنين والصد والإعراض والدلال ما تتلألأ فيه خواطره وتتألق فيه أحاسيسه. وكان ينحو في غزله منحى سهلًا؛ حتى لتصبح بعض غزلياته أسلس على اللسان من الماء العذب، من مثل قوله الذي مر بنا ٥:"

حاملُ الهوى تعبُ ... يستخفُّهُ الطَّربُ

إن بكى يحق له ... ليس ما به لَعِبُ

وهو في غزله بالغلمان ينحو كثيرًا منحى التعابث والهزل، ولعل ذلك


١ طبقات الشعراء، ص٨٩.
٢ أغاني، طبعة دار الكتب، ٧/ ٢٠.
٣ الديوان، ص٣٣٩.
٤ الديوان، ص٦٣.
٥ معاهد التنصيص والديوان، ص٣٦١.

<<  <   >  >>