للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

في الموت وظلمة القبر ووحشته، ويسود زهدياته في أثناء ذلك تشاؤم أسود حزين؛ فالحياة ليس فيها إلا الألم وإلا الموت وغصصه، وأولى بالإنسان فيها أن لا يفرح بمتعها، بل أولى به أن يبكي على نفسه، يقول١:

لدواعي الخيرِ والشـ ... ـرِ دنوٌ ونزوحُ

سيصيرُ المرءُ يومًا ... جسدًا ما فيه روحُ

بين عيني كلِّ حي ... عَلَمُ الموتِ يلوحُ

كلُّنا في غفلةٍ والْـ ... موتُ يغدو ويروحُ

نُحْ على نفسِكَ يا مسكين ... إن كنت تنوحُ

لتموتنَّ وإن عُمِّـ ... رَت ما عُمِّرَ نوحُ

ويقال: إن الملاحين غنَّوا الرشيد هذه المقطوعة في إحدى نزهاته بدجلة؛ فلما سمعها جعل يبكي وينتحب٢. وفي هذا الخبر ما يدل على قرب شعره من روح الشعب؛ إذ لم يكن المغنون وحدهم الذين يغنون به، بل كان أفراد الشعب من ملاحين وغيرهم يتغنون فيه، مما يدل على أنه كان له صدى عميق في نفوس الطبقة العامة التي لم تكن تعرف الترف ولا حياة الدعة واللهو تلك التي عاشها الأمراء العباسيون والأشراف الذين نعموا بملذات الحياة، كما عاشها الشعراء الماجنون في نوادي بغداد. ولم يكن هذا الشعر الزاهد قريبًا منها في معانيه فحسب؛ بل كان قريبًا منها في ألفاظه، بل لعلنا لا نبعد إذا قلنا إنه كان من نفس ألفاظها اليومية ويتحول كثير منه إلى ما يشبه وعظ الوعاظ ممن كانوا يعظون الناس في المسجد الجامع، فيضعون الموت تحت أعينهم للعبرة والعظة٣، ولعل ذلك ما يجعل الاستفهام والأمر والتعجب يشيع في تلك الزهديات. على أن مسحة مهمة تعلوها هي مسحة الكآبة والبرم بالحياة، وهي ليست مسحة إسلامية؛ فالإسلام لا يشوِّه الحياة ولا يبغضها إلى الناس، بل يدعوهم إلى العمل الصالح، أما


١ أغاني ٤/ ١٠٣. والديوان ص٦٦.
٢ أغاني ٤/ ١٠٤.
٣ انظر: القصيدة الطويلة التي يصف فيها بالتفصيل مشهد الموت والغسل والدفن من ص٢٩٣ إلى ٢٩٥ في الديوان

<<  <   >  >>