للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

أبو العتاهية فيصورها في سواد خانق، وهو سود جاءه فيما نظن من قراءاته في المانوية واختلاطه بأصحابها، إن لم يكن من اعتناقه لها؛ ولكن على أساس فلسفته التي قدمناها من التوفيق بينها وبين الإسلام؛ بحيث آمن بربه وأقرَّ بالثواب والعقاب في الدار الآخرة، كما يشهد بذلك كثير من أشعاره.

ومما لا ريب فيه أنه كان يكثر من قراءة المترجمات، وخاصة في باب الحكم والموت، فقد قالوا: "إنه نظم في بعض مراثيه قول بعض الفلاسفة لما حضروا موت الإسكندر: الإسكندر كان أمس أنطق منه اليوم وهو اليوم أوعظ منه أمس"؛ فقال في رثاء على بن ثابت:

وكانت في حياتك لي عظات ... وأنت اليوم أوعظ منك حيَّا١

ومرت بنا مرثية أخرى له في علي، وقد جعله تصويره لآلام الحياة والموت يجيد في هذا الموضوع، وكان كثيرًا ما ينقل حكم الأوائل من فرس وغير فرس إلى شعره، ولعل ذلك ما أتاح له أن ينظم مزدوجته "ذات الأمثال" التي امتدت إلى أربعة آلاف بيت، ويقول الجاحظ تعليقًا على قوله: "أسرع في نقص أمرئ تمامه"، ذهب إلى كلام الأول: "كل ما أقام شخص، وكلما ازداد نقص، ولو كان الناس يميتهم الداء، إذن لأعاشهم الدواء"٢.

وأظن أن فيما أسلفنا ما يدل في وضوح على صنعة أبي العتاهية، وهي صنعة كانت تقوم على السهولة المفرطة في اختيار الألفاظ والعبارات؛ حتى لتقترب من لغة الناس اليومية، بل حتى ليصيبها أحيانًا ضرب من الابتذال، ومن أجل ذلك كان الأصمعي يقول: "شعر أبي العتاهية كساحة الملوك يقع فيها الجوهر والذهب والتراب والخزف والنوى"٣، ويقول أبو الفرج: إنه كثير الساقط المرذول٤ على أننا نلاحظ أنه لم يدخل في شعره ألفاظًا أعجمية؛ إنما هو القرب فقط من كلام العامة، وكان يتخذ ذلك مذهبًا في صنعة شعره، حتى يكون أكثر تداولًا


١ البيان والتَّبَيُّن١/ ٤٠. وانظر ٣/ ٢٥٧. والأغاني ٤/ ٤٤.
٢ البيان والتَّبَيُّن١/ ١٥٤.
٣ أغاني ٤/ ٤٠.
٤ أغاني ٤/ ٢.

<<  <   >  >>