للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

مرة. وكان أبو نواس محظوظًا لا يدري ما وصل إليه؛ لكنه كان متلافًا سمحًا، وكان يتساجل في الإنفاق هو وعباس بن الأحنف وصريع الغواني "مسلم بن الوليد"، وكان البحتري مليئًا قد فاض كسبه، وكان يركب في موكب من عبيده

وعلى هذه الشاكلة توفرت الأموال لدى الشعراء، وعاشوا في عالم مترف زاخر بالحلى والزينة، يقول الجاحظ: "وكانت الشعراء تلبس الوَشْي والمقطَّعات والأَرْدية السود وكل ثوب مشهَّر ويقول: إنهم كانوا يتندرون على من يتزيَّا بزي الماضين٢، ويقول صاحب الأغاني عن سلم الخاسر: كان يأتي باب المهدي على البرذون "الفرس المطهم" قيمته عشرة آلاف درهم، والسرج واللجام المقذوذين "المزينين" ولباسه الخزُّ والوشي وما أشبه ذلك من الثياب الغالية الأثمان ورائحة المسك والطيب والغالية تفوح منه"٣. وكان غير سلم يصنع تصنيعه في حياته وثيابه وطيبه.

وأخذ هذا التصنيع والتنميق يتسرب من حياة الشعراء العامة إلى حياتهم الفنية الخاصة، وهي حال طبيعية توجد دائمًا في الصنائع حين يعمُّ الترف؛ فإذا هي تتحول إلى زخارف دقيقة. وليس الشعر وحده الذي أخذ يسود فيه هذا التصنيع فقد كان يشيع في فن العمارة وبناء المساجد والقصور، كما كان يشيع في التصوير الذي كان يستخدم زينة وزخرفًا للكتب والقصص؛ فلا عجب أن ينتقل إلى الشعر والشعراء، وأن ينمو مع الزمن حتى تصبح القصيدة كأنها واجهة لمسجد مزخرف بديع، قد تألَّق في وشي مرصَّع كثير.

ولعل أقدم النصوص التي تشير إلى نشأة مذهب التصنيع وأول من اعتنقوه ما نجده عند الجاحظ إذا يقول: "ومن الخطباء الشعراء ممن كان يجمع الخطابة والشعر الجيد والرسائل الفاخرة مع البيان الحسن كلثوم بن عمرو العتَّابي وكنيته أبو عمرو، وعلى ألفاظه وحذوه ومثاله في البديع يقول جميع من يتكلف مثل


١ العمدة، لابن رشيق "طبعة أمين هندية" ٢/ ١٥٠.
٢ البيان والتَّبَيُّن ٣/ ١١٥.
٣ أغاني "طبعة ساسي" ٢١/ ٧٨.

<<  <   >  >>