للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

فرغب خالد أن يكونه خروجه إلى مكة، ثم شفع فيه ابن أبي دؤاد فاستقر على حاله. وهنا استغلَّ أبو تمام الموقف فجاء يقرئ السلام أهل مكة من خالد المعروف بفعل الجميل وشجاعة الحروب. ثم استمر يجانس بين يذود وذائد، وبطحاء وتبطحت، ومِنًى ومُنًى، وحرا وحراء، وتعرَّفت وعرفات، وكداء وإكداء. وطيبة وطابت، والحرمان ويحرم. وليس من شك في أن هذه مهارة فائقة من أبي تمام حين استغل تلك الأماكن في جناسه، وقد أكثر منه كثرة مفرطة؛ ولكن ليس هذا كل ما يلفتنا في جناس أبي تمام بالقياس إلى مسلم أستاذه؛ إنما يلفتنا ما فيه من "تصوير" يلتفُّ على هذا الجناس ويحتضنه، فيعطيه شيات أخرى، كأنها ليست هي التي نعرفها له، واقرأ له هذه الأبيات في مطلع إحدى قصائده لابن الزيات.

متى أنت عن ذُهلية الحي ذاهلُ ... وقلبُك منه مدَّة الدهر آهلُ١

تطلُّ الطلولُ الدمعَ في كل موقفٍ ... وتمثلُ بالصبر الديار المواثل٢

دوارسُ لم يجفُ الربيع ربوعها ... ولا مرَّ في أغفالها وهو غافل٣

فقد سحبت فيه السحائب ذيلها ... وقد أخملت بالنور منها الخمائلُ٤

تعفين من زاد العُفاةِ إذا انتحى ... على الحي صرفُ الأزمة المتحامل٥

لهم سلفٌ سُمْرُ العوالي وسامرٌ ... وفيهم جمالٌ لا يغيضُ وجاملُ٦


١ذهلية الحي: من قبيلة ذهل. آهل: معمور. وهو في البيت يستبعد سلوه عن صاحبته، ويقول على سبيل الإنكار: متى تسلو عنها وصدرك أبدًا آهل بها؟
٢ تطل: تسقط ما يشبه الطل من الدموع. تمثل بالصبر: تعاقبه حتى تجعله مثله ونكالًا. المواثل: الدوارس.
٣ يقول: إن الربيع لا يجفوها ولا يغفل عن سقياها.
٤ النور: الزهر. الخمائل: الرياض والطنافس من القطيفة. أخملت: من الخمل، وهو أهداب القطيفة ونحوها.
٥ العفاة: السائلون. تعفين: خلون صرف الدهر، حدثانه ونوائبه. الأزمة: السنة المجدبة. يقول: خلت هذه الديار من معروف أهلها وكرمهم الذي كان السائلون ينالونه في السنوات المجدبة.
٦ السلف هنا: القوم المتقدمون للقافلة وكانوا يقدمون أمامهم فرسانهم. السامر: القوم يتحدثون في الليالي المقمرة. الجامل: القطيع من الإبل برعاته وأربابه، والحي العظيم.

<<  <   >  >>