فإنك تحس إحساسًا واضحًا بجمال هذا اللون من الجناس الذي كان يتكئ عليه أبو تمام في صنع نماذجه؛ ولكن احذر أن تظن أن هذا الجمال شيء مستقر في الجناس وحده إنما هو مستقر أيضًا فيما يدور فيه من أوعية "التصوير" التي ترى فيها الطلول تطل الدمع والربيع لا يجفو الربوع ولا يمر بها غافلًا، ثم تلك السحائب التي تجرر أذيالها وتلك الخمائل التي أخملت النور.
وفي هذا ما يجعلنا نلتفت إلى جانب مهم في استخدام ألوان التصنيع، ذلك أنها تستخدم على طريقتين: الطريقة الأولى أن تأتي متعاقبة لا يتعلق بعضها ببعض، كما نجد ذلك عند مسلم في كثير من أحواله، وكما نجد عند جماعة الصانعين في القرن الثالث من أمثال البحتري. أما الطريقة الثانية: فتمتزج فيها هذه الألوان، ويمر بعضها في بعض فتتغير شياتها وهيئاتها، كما نجد عند أبي تمام في أكثر أحواله. هناك إذن طريقتان في استخدام ألوان التصنيع، طريقة تستخدم فيها استخدامًا بسيطًا، وطريقة تعقد فيها تعقيدًا شديدًا؛ فاللون دائمًا يَتَّشح بألوان أخرى قد تطوقه أو تنطقه أو تقع في ذروته أوفي حاشيته، وهي في كل منظر من مناظرها تنتهي به إلى ما يشبه أن يكون لونًا جديدًا. ونحن ينبغي أن نميز تميزًا واضحًا بين هذين الصنيعين فنسمي ألوان التصنيع حين تأتي متتابعة دون أن تلتقي أو تتحد باسم: ألوان تصنيع مختلطة، أما حين تلتقي وتتحد ويدور بعضها في أوعية بعض فإننا نسميها باسم: ألوان تصنيع ممتزجة؛ فاللون لا يستمر بصورته الأولى بل يأخذ صورة جديدة يتجاذبها لونان أو أكثر. أما في مجموعة الألوان المختلطة فكل لون يحتفظ بصورته ولا يخرج إلى هيئة جديدة. ولعل أهم لون استعان به أبو تمام على هذا المزج والاتحاد هو لون التصوير؛ فقد كان يمزجه -كما رأينا- بالجناس، وكان يمزجه أيضًا بالطباق والمشاكلة، واقرأ هذا البيت:
كل يومٍ له وكل أوانٍ ... خلقٌ ضاحكٌ ومالٌ كئيبُ
فإنك ترى فيه طباقًا بين الضحك والكآبة؛ ولكنه ليس طباقًا خالصًا؛ ففيه شِيات لون آخر هو لون التصوير، وكأنما الكلمتان تتكافآن في النسبة إلى