للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

ولكن أبا تمام أكثر منه واتخذه مذهبًا له يغمر فيه أبياته، فما تزال تتألق في صبغ عجيب والحق أن الآمدي لم يكن موفقًا هو وأضرابه من النقاد المحافظين حين وضعوا لصبغ التشخيص قاعدة وأخذوا يناقشون أبا تمام على أساسها، على أن هناك جانبًا في تصوير أبي تمام خلطوا بينه وبين صبغ التشخيص ونقصد جانب: الإغراب في التصوير، إذا كان يغرب أحيانًا فيأتي بصورة غير مألوفة كهذا البيت يقوله في بعض ممدوحيه:

كأنني حين جرَّدتُ الرجاء لهُ ... غضًّا صببتُ به ماءً على الزمنِ

فقد كان الآمدي يستقبح منه أن جعل الزمان كأنه صبَّ عليه ماء؛ وهي ليست صورة قبيحة، هي غريبة ولكن غرابتها لا تنفي تعبيرها عن فكرته وما احتوته من جمال، ومن ذلك قوله:

حتى إذا اسودَّ الزمان توضَّحوا ... فيهِ فغودر وهو فيهم أبلقُ١

فقد كان الآمدي ينكر هذه الصورة التي جعل فيها الزمان أبلق، كما كان ينكر كبد المعروف في قوله:

لدى ملكٍ من أيكةِ الجودِ لم يزلْ ... على كبد المعروف من فعله بردُ

وأنكر إنكارًا شديدًا أن يجعل للشتاء أخدعًا في قوله يصور انتصار أبي سعيد الثغري في بعض معاركه مع الروم وقد تراكمت الثلوج:

فضربتَ الشتاءَ في أخدعيهِ ... ضربةً غادرته قودًا رَكُوبا٢

والبيت بدون شك طريف؛ إذ جعل أبو تمام الشتاء بوعوثه ثلوجه فرسًا جامِحًا، وجعل انتصار أبي سعيد فيه كأنه ضربة سدِّدت إليه، فقضت على جموحه وشراسته وجعلته سهل القيادة ذلولًا. ولكن الآمدي لا يعجب بالبيت؛ لأن فيه الاستعارة المكنية التي يرى فيها خروجًا على عمود الشعر العربي، وإذا رجعنا إلى البيت في الديوان وجدنا معه أبياتًا رائعة تكمل صور هذا الانتصار الذي رفع به


١ توضحوا: بانوا. والقود: الذلول
٢ الأخدع: عرق في صفحة العنق،

<<  <   >  >>