مألوفة، يناقشونه في ظاهر العمل ويتركون باطنه، وما ينساب فيه من تلك الينابيع الفلسفية والثقافية التي تلون شعره بألوان خاصة.
على أن وقوف النقاد العباسيين عند جانب الصعوبة والالتواء في هذا الغموض الفني جعلهم لا يتلفتون إلى جانب الجمال فيه؛ إذ كان أبو تمام يستخدم الثقافة والفلسفة في شعره استخدامًا فنيًّا واسعًا. يحاول بهما أن يحدث لنفسه أسلوبًا متموِّجًا بالفكر زاهيًا بالعقل شديد الحركة والحياة. ومن الصعب أن نفسر ما في هذا الأسلوب من تموج عقلي؛ فإن أبا تمام لا يقف به عند جانب معين من ديوانه أو أبياته، فهو ينشره فيها جميعًا كما ينشر الربيع خضرته على جميع النباتات والأشجار، ونحن لا نبالغ إذا قلنا إن شعر أبي تمام خير مثل تصوِّر ربيع الفكر العربي ومقدرته على الازدهار والإثمار، وكما أن الربيع لا يحجز بقطع خاصة من الرياض، كذلك هذا الضرب من التلوين العقلي عند أبي تمام وما يصحبه من ضباب وغموض، فإنه يعم به جميع أشعاره حتى ليخيل إلى الإنسان كأنما فارق التفكير الفني عند العرب هيئاته القديمة المعروفة إلى هيئات جديدة، ما يزال يغيِّر فيها هذا التلوين العقلي الواسع الذي يثبته أبو تمام في جميع أطراف أسلوبه.
ونحن لا ننكر أن هذا الجانب وما صحبه من غموض أحدث كثيرًا من العقد في رُقَع النسيج العام لشعر أبي تمام؛ ولكنها عقد زاهية تدخل في مواد النسيج فتكسبه عمقًا وبعدًا في الفكر والخيال. وقد أحدثت هذه العقد مظهرين عامين في شعره لا نشك في طرافتهما ولا في جمالهما، أما أولهما: فدقة التفكير وعمق التصوير، وقد راح ينشرهما في كل شقٍّ من شعره كأن يقول في وصف روض:
ومعرَّس للغيث تخفق فوقه ... رايات كل دجنة وطفاء١
١ المعرس: المنزل ينزل به المرتحلون في آخر الليل. الدجنة هنا: السحابة المظلمة. وطفاء: ذات أهداف، ويقصد بها خيوط المطر، ويريد بالرايات البرق.