نشرت حدائقه فصرن مآلفًا ... لطرائف الأنواءِ والأنداءِ١
فسقاه مسك الطلِّ كافور الندى ... وانحلَّ فيه خيطُ كل سماءِ
فقد عبَّر عن السحب التي يتلألأ البرق في أطرافها بالرايات المطرزة التي تخفق بالريح؛ ولكن ليس هذا ما يلفتنا في الأبيات إنما يلفتنا الشطر الأول من البيت الثالث؛ فقد أبعد على نفسه فيه؛ إذ ذهب يقول: إن مسك الطل يسقي الروض كافور الندى، وهي صورة معقدة، فماذا يريد أبو تمام بمسك الطلِّ؟ وماذا يريد بكافور الندى؟ أما مسك الطل فإنه يريد به الرائحة العطرية التي تعبق من الروض إثر الطل والمطر الخفيف، وأما كافور الندى فإنه ذلك الرشاش الذي تعقد قطراته بيضاء على أوراق الروض كالكافور، وليس من شك في أن هذه صورة مركبة؛ ولكنها تعبق بالمسك والطيب، وهذا التلوين العقلي الغريب الذي يتضوع به ديوان أبي تمام كما يتضوع الزهر بشذاه. ويقول النقاد من أمثال الآمدي إن شعر أبي تمام غامض، ولكن أي غموض؟ إنه غموض أوقات السحر التي كان يعجب بها أبو تمام؛ وإنه لتنحلّ فيها خيوط من الضياء على حد تعبيره، وهل هناك أجمل من تصويره لسقوط المطر بتلك الخيوط التي تنحل في الروض؟! إنه تصوير طريف قلما يقع في ذهن شاعر إلا هذا الذي يستوعب الثقافة والفلسفة وتتحولان عنده إلى طرائف من العمق في التفكير والتصوير.
وكان يقابل هذا المظهر من دقة التفكير وبعد التصوير مظهر آخر من الغموض الزاهي انتشر في شعره، ونقصد ما نجده في أبياته من وفرة الاحتمالات؛ إذ يكثر فيها التأويل والشرح لما تمتاز به من عمق وإغراق في التفكير والخيال، وتتعدد الشروح والتأويلات، وتخرج من ذلك صور وتفسيرات على وجوه شتى. وقد عُني القدماء بهذا الجانب من الغموض عند أبي تمام، وكتب المرزوقي فيه بحثًا طريفًا سماه: المشكل، عرض فيه للمشكل من أبياته، وراح يذكر ما يمكن أن توجَّه به من تأويلات طريفة؛ فمن ذلك قوله: