وبدعًا من نوافر أضداده وأخرجها في صورة جديدة، يكاد الإنسان ينسى أصلها، ولا يذكر بذورها التي تفرعت منها؛ فقد غيرتها المدنية والحضارة، وحورتها الفلسفة والثقافة.
كان الشعراء يستمدون من القدماء في القرنين الثاني والثالث، ولكنهم استطاعوا بمواهبهم الفنية أن يغيروا في صور ما استمدوه وكأنهم حرفوه عن أوضاعه، فغدا يختال في شكل حضري مونق، كهذه الأثافي التي تشبه -بما عليها من حمرة في سواد- الخدود وقد اضطرب فيها اللونان، ولا تنسى النَّؤْي فإنه استحال إلى سوار غريب طال عليه العهد بصاحبته، وتكسر في غير موضع منه؛ ولكنه لا يزال كأنما تركته بالأمس. وقد رجع أو تمام فوصف هذا النؤي مرة أخرى وصفًا معجبًا؛ إذ يقول:
وارجع إلى صورة هذه الدابة التي كانت ترعى في الصحراء، وقد أصبحت ترعاها هذه الصحراء رعيًا لا يستطيع ذهن أن يجمع في لفظ ما يعبر به عن جمال هذا التصوير وما يطوي من الإبداع في العرض، فبعيره لا يذوب سنامه فقط بل هو يرعى ويُرعى رعيًا غريبًا، وأي فنان يرى هذه الصورة ولا يقيدها في لوحته أو على تمثاله أوفي قصيدته؟ لتكن الفكرة في أصلها قديمة ولكن قد استوى لها من ذهن أبي تمام وفلسفته ما أكسبها شيئًامن الإنسانية فإذا هي تخرج من الصحراء والفيافي إلى محيط أوسع من الفكر والفلسفة والخيال والعمق.
واترك أصحاب التصنيع إلى غيرهم من الصانعين كالبحتري فإنك ستذكر ما كان يضيفه إلى خواطره من تحوير في الأصوات، يلذُّنا، ويمتعنا متعة تخلق في أذهاننا هذا الجو الموسيقى الخاص به، والذي تنطق فيه مزاميره؛ فإذا هي تؤثر في أعصابنا تأثيرًا حادًّا، ونحسن كأننا نحلم حلمًا سارًّا في جو موسيقي، لا عهد لنا بسحره وفتنته.
كان التحوير عند هؤلاء الشعراء عملًا فنيًّا طريفًا؛ غير أنا لا نتقدم إلى