للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

القرن الرابع حتى نحس بتحول في هذا التحوير؛ إذ يصبح نوعًا من التلفيق، فالشعراء لا يضيفون إلى الأفكار عناصر جديدة من زخرف أو حضارة أو ثقافة، وبذلك أصبحت تشبه "الصور الفوتوغرافية" فهي تحافظ على الأصل بأشكاله وأوضاعه، وهذا كل ما تستطيع آلة المصوَّر أن تقدمه، ومع ذلك فلا بد لها من صلاحية في استعمالها واستخدامها؛ ولكن ليس للمصور عمل في صوره، إنما هي أشياء آلية، هي آلة تُخرج، وعليه أن يرصد ما تخرج.

التَّلْفيقُ:

ومهما يكن فقد أصبح مثل الشاعر العربي بعد القرن الثالث غالبًا مثل المصور "الفوتوغرافي"؛ إذ لم يعد رسامًا يحوِّر في الخواطر تحويرًا يظهر شخصيته وأسلوبه وما يستخدمه من ألوان وأصباغ، بل أخذ يلفق أفكاره وألفاظه، وأصبح هذا التلفيق أكثر ما بيده من صناعته، ودخله من طرق كثيرة، وكلما سلك طريقًا أمعن فيه واستخرج منه كل ما يمكن أن يكون به من ذهب أو خزف؛ فظهر الاقتباس١ وظهر التضمين٢ وحلَّ الأدباء الشعر ونظموا النثر٣، وهي اتجاهات لا تفصح عن مقدرات فنية، إنما تفصح عن تلفيق غريب، وانظر إلى هذا البيت للمتنبي:

أعدى الزمانَ سخاؤه فسخا به ... ولقد يكونُ به الزمانُ بخيلا

ثم انظر إلى أصله عند أبي تمام:

هيهات أن يأتي الزمان بمثلِهِ ... إن الزمانَ بمثله لبخيلُ

فإنك تحس أن المتنبي لم يصطنع شيئًاأكثر من التشويه؛ فبيت أبي تمام أجود سبكًا وأجمل لفظًا؛ ولكنه تعثر الحضارة العربية، بل هو تعثر الفن العربي؛ إذ لم يحدث فيه جديد واسع إلا هذا التقليد الذي كاد يقضي على الابتكار والأصالة في الشعر والشعراء، ولعل النقل والنقض أهم وسيلتين كان يلجأ إليهما الشعراء


١ اليتيمة ٢/ ١٨٩.
٢ اليتيمة ٤/ ١٩٩
٣ انظر كتاب "نثر النظم وحلّ العقد" للثعالبي، وانظر: حل الصاحب وغيره نظم المتنبي في اليتيمة ١/ ١٠١.

<<  <   >  >>