للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

ألم تعلمي أن الثَّواءَ هو التَّوَى ... وأن بيوت العاجزين قبورُ١

ومنها في وصف ودَاعِهِ لزوجِهِ وولدها الصغير:

ولَمَّا تدانَتْ للوداعِ وَقَدْ هَفا ... بصَبْرِيَ منها أَنَّةٌ وزَفيرُ

تناشدني عهدَ المودةِ والهوى ... وفي المهد مَبْغومُ النداء صغيرُ

عيي بمرجوع الخطابِ ولفظِهِ ... بموقع أهواء النفوسِ خبيرُ

تبوَّأ ممنوع القلوبِ ومُهِّدت ... له أذرعٌ محفوفة ونحُورُ

فكل مفدَّاة الترائبِ مرضِعٌ ... وكل محيَّاةِ المحاسنِ ظيرُ٢

عصيتُ شفيعَ النفس فيه وقادني ... رواحٌ بتدآبِ السُّرى وبكورُ

وطار جناحُ البَينِ بي وهفتْ بها ... جوانحُ من ذُعرِ الفراقِ تطيرُ

وهذه القطعة تفيض بالعواطف والشعور الحي، وهي دليل على جودة شاعرية ابن دراج وأنه لو ترك نفسه على سجيتها دون عناية بتقليد المذاهب المشرقية من صنعة وتصنيع وتصنع لاستطاع أن يترك لنا شعرًا مليئًا بالحيوية والقوة والوجدان الفياض؛ غير أنه كان يريد أن يثبت تفوقه ومهارته، وهو لذلك يحاول أن يصنع شعره على صورة شعر المتنبي أو أبي تمام أو غيرهما من شعراء المشرق، ونفس هذه القصيدة التي أتى فيها بهذه القطعة الممتازة نراه يختمها بهذين البيتين:

أثرني لخطبِ الدَّهرِ، والدَّهرُ معضلٌ ... وكلني لليثِ الغابِ وهو هصُورُ

وقد تخفضُ الأسْمَاءُ وهي سواكنٌ ... ويعملُ في الفعلِ الصحيحِ ضميرُ

ومعنى ذلك أنه كان يلتزم التصنع في شعره حتى في هذه القصائد التي يحاول أن يعبر فيها تعبيرًا حرًّا عن عواطفه، بل نحن نبالغ فليس عنده من حرية في التعبير، أليست هذه القصيدة التي نعجب فيه بوداعه لزوجه وولده قد نظمها في حيز قصيدة أبي نواس إذ استعار منه الوزن والقافية، كما استعار منه كثيرًا من خواطره وأفكاره. واقرأ له هذه القطعة من قصيدة أخرى في منذر بن يحيى:

علا فحوى ميراثَ عادٍ وتبَّعٍ ... بهمَّتهِ العليا ونسبته الدُّنيا


١ التوى: الهلاك.
٢ الظئر: المرضعة لولد غيرها.

<<  <   >  >>