للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

وكأن الشمسَ في أثنائِهِ ... ألصقت بالأرضِ خدًّا للنزولْ

والصبا ترفع أذيال الرُّبى ... ومحيَّا الجوِّ كالنهر الصقيلِ

حبَّذا منزلُنا مغتبقًا ... حيث لا يطربُنا إلا الهديلْ١

طائرٌ شادٍ وغصنٌ منثنٍ ... والدُّجى يشربُ صهباءَ الأصيلْ

ودائمًا تلقانا مثل هذه الصور الطريفة في أشعارهم، لا في وصف الطبيعة والغزل فحسب، بل أيضًا في مدائحهم ومراثيهم، كقول ابن عمَّار يمدح المعتضد ملك إشبيلية٢:

أنْدَى على الأكبادِ من قطرِ النَّدى ... وألذُّ في الأجفانِ من سِنَةِ الكَرى

ومثل قول أبي عامر بن الحمارة يرثي زوجه٣:

ولما أن حللت التُّربَ قلنا ... لقد ضلَّت مواقعَها النُّجومُ

ألا يا زهرةً ذبلتْ سريعًا ... أضنَّ المزنُ أم ركدَ النَّسيمُ

واشتهروا بمراثيهم للدول الزائلة، ومراثي ابن اللبَّانة في بني عباد مشهورة، وكذلك مراثي ابن عبدون في بني الأفطس أصحاب بطليموس، ومن بديع قوله فيها هذا المطلع الرائع لإحداها٤:

ما لليالي أقال اللهُ عثرتَنَا ... من الليالي وخانَتْها يدُ الغيرِ

تسُرُّ بالشيء لكن كي تَغُرُّ به ... كالأيمِ ثار إلى الجاني من الزَّهَرِ٥

ولم تسقط مدينة في يد مسيحيي الشمال إلا بكوها وتفجعوا عليها تفجعًا حارًّا، وهو تفجع كانوا يضمنونه استصراخًا للمسلمين في مغارب الأرض ومشارقها لعلهم يستنقذون تلك المدن من براثن الإسبان، ويعيدونها إلى حظيرة الإسلام، قبل أن تدكَّ هناك كل صروحه وتسقط كل راياته وأعلامه.

ومن غير شك نهض الشعر العربي في هذا الفردوس المفقود نهضة رائعة. على أنه ينبغي أن لا نبالغ في تصور هذه النهضة؛ إذ كان الأندلسيون يولون


١ المغتبق: مكان الاغتباق وهو شرب المساء. الهديل: صوت الحمام وفرخه.
٢ المغرب ١/ ٣٩١.
٣ المغرب ٢/ ١٢٠.
٤ المغرب ١/ ٣٧٦.
٥ الأيم: الثعبان.

<<  <   >  >>