أن يفهموا مذاهبهم فهمًا واضحًا أو يعرفوا ما بين هذه المذاهب من مفارق واسعة، وكأني بالأندلسيين انتهوا إلى التقليد وارتضوه لأنفسهم فعاشوا في الشعر العربي هذه المعيشة التقليدية التي نرى آثارها الآن عند ابن برد وغيره من الشعراء.
ابْنُ زَيْدُونٍ:
لعله يحسن بنا أن نقف عند ابن زيدون١ لننظر في حقيقة هذا الحكم العام الذي نحكم به على شعراء الأندلس، وكان حامل لواء الشعر في عصره، وهو من أسرة اشتهرت بالفقه، ونعمت بالثراء. ولد بقرطبة سنة ٣٩٤ للهجرة واهتم به أبوه منذ نعومة أظفاره فأحضر له الأدباء المعلمين والفقهاء والمثقفين، ولم تلبث ملكته الشعرية أن تفجرت على لسانه ينبوعًا عذبًا، فعلا شأنه ولمع نجمه.
وليس بين أيدينا أخبار واضحة من موقعه في حوادث سقوط الدولة الأموية، وإن كنا نظن أنه لم يقف مكتوف اليدين إزاءها، بل لعله كان أحد من أعانوا في قيام دولة بني جهور واعتلاء أبي الحزم عرش قرطبة سنة ٤٢٦. ونراه غارقًا في حب ولادة بنت الخليفة المستكفي، وكان ابن عبدوس ينافسه في هذا الحب، ويظهر أنه كان أحد من وشى به إلى أبي الحزم؛ إذ نسبت إليه مؤامرة ضده للعودة بزمام الأمور إلى بني أمية، فأودع السجن سنوات طوالًا، وهو يضرع إلى أبي الحزم بشعره ورسالته الجدية، واستشفع بابنه أبي الوليد؛ ولكنه لم يعف عنه فهرب من السجن ليلة عيد. وأخيرًا عفى عنه أبو الحزم، وقربه أبو الوليد منه، حتى إذا توفي أبوه وولِّي مكانه عيَّنه للنظر على أهل الذمة، ثم رفعه إلى مرتبة الوزارة، وسفر بينه وبين كثير من ملوك الإمارات الأندلسية. وفسدت الأمور بينه وبين أبي الوليد كما فسدت بينه قبلًا وبين أبيه، فولَّى وجهه نحو إشبيلية واستقبله ملكها المعتضد استقبالًا حافلًا، واتخذه وزيرًا له، كما اتخذه من بعده ابنه المعتمد وزيره ومستشاره واستطاع بفضل جهوده أن يغزو قرطبة
١ انظر كتابنا "ابن زيدون" طبع دار المعارف؛ حيث فصلنا الحديث عن حياته وشعره. وراجع الذخيرة ١/٢٨٩. والقلائد: للفتح بن خاقان ص٧٠. والمغرب في حلى المغرب ١/٦٣. والمعجب: للمراكشي "طبعة دوزي" ص٧٤. والحلة السيراء: لابن الأبار ص٤٥.