للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

نار. يقوم هذا المشهد العجيب بالإيحاء الشعوري الرعيب الذي لا يدع مجالا للتردد في الاختيار، قبل أن تذهب فرصة الاختيار وقبل أن يصيب الجنة الوارفة الظليلة المثمرة إعصار فيه نار!

وبعد؛ فإن التناسق الدقيق الجميل الملحوظ في تركيب كل مشهد على حدة، وفي طريقة عرضه وتنسيقه هذا التناسق لا يقف عند المشاهد فرادى.

بل إنه ليمد رواقه فيشمل المشاهد متجمعة من بدئها في هذا الدرس إلى منتهاها إنها جميعا تعرض في محيط متجانس محيط زراعي؛ حبة أنبتت سبع سنابل، صفوان عليه تراب فأصابه وابل، جنة بربوة فآتت أكلها ضعفين، جنة من نخيل وأعناب حتى الوابل والطل والإعصار التي تكمل محيط الزراعة لم يخل منها محيط العرض الفني المثير.

وهي الحقيقة الكبيرة وراء العرض الفني المثير حقيقة الصلة بين النفس البشرية والتربة الأرضية. حقيقة الأصل الواحد وحقيقة الطبيعة الواحدة، وحقيقة الحياة الثابتة في النفس وفي التربة على السواء وحقيقة المحق الذي يصيب هذه الحياة في النفس وفي التربة على السواء.

إنه القرآن كلمة الحق الجميلة من لدن حكيم خبير"١.

ومنها ما هو تصوير لمشاهد كونية للمتأمل فيها آية وأي آية فمن ذلك تفسيره لقوله تعالى: {وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ، وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ} ٢، قال: "فلفظ عسعس مؤلف من مقطعين: عس عس. وهو يوحي بجرسه بحياة في هذا الليل، وهو يعس في الظلام بيده أو برجله لا يرى! وهو إيحاء عجيب واختيار للتعبير رائع. ومثله: {وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ} بل هو أظهر حيوية وأشد إيحاء والصبح حي يتنفس. أنفاسه النور والحياة والحركة التي تدب في كل حي وأكاد أجزم أن اللغة العربية بكل مأثوراتها التعبيرية لا تحتوي نظيرا لهذا التعبير الصبح. ورؤية الفجر تكاد تشعر القلب المتفتح أنه بالفعل يتنفس! ثم يجيء


١ في ظلال القرآن: ج١ ص٣٠٨-٣١٠.
٢ سورة التكوير: الآيتين ١٧-١٨.

<<  <  ج: ص:  >  >>